رأى الأمر يفضي إلى آخر
فيصير آخره أولاً
والوجه الثاني : أن كسب المال شاق شديد، وحفظه بعد حصوله أشد وأشق وأصعب، فيبقى الإنسان طول عمره تارة في طلب التحصيل، وأخرى في تعب الحفظ، ثم إنه لا ينتفع بها إلا بالقليل وبالآخر يتركها مع الحسرات والزفرات، وذلك هو الخسران المبين.
والوجه الثالث : أن كثرة المال والجاه ثورت الطغيان، كما قال تعالى :﴿إِنَّ الانسَـانَ لَيَطْغَى * أَن رَّءَاهُ اسْتَغْنَى ﴾ (العلق : ٦، ٧) والطغيان يمنع من وصول العبد إلى مقام رضوان الرحمن، ويوقعه في الخسران والخذلان.
الوجه الرابع : أنه تعالى أوجب الزكاة وذلك سعي في تنقيص المال، ولو كان تكثيره فضيلة لما سعى الشرع في تنقيصه.
فإن قيل : لم قال عليه السلام :"اليد العليا خير من اليد السفلى".
قلنا : اليد العليا إنما أفادته صفة الخيرية، لأنه أعطى ذلك القليل، فبسبب أنه حصل في ماله ذلك النقصان القليلة حصلت له الخيرية، وبسبب أنه حصل للفقير تلك الزيادة القليل حصلت المرجوحية.
المسألة الثالثة : جاءت الأخبار الكثيرة في وعيد مانعي الزكاة، أما منع زكاة النقود فقوله في هذه الآية :﴿يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِى نَارِ جَهَنَّمَ﴾ وأما منع زكاة المواشي فما روي في الحديث أنه تعالى يعذب أصحاب المواشي إذا لم يؤدوا زكاتها بأن يسوق إليه تلك المواشي كأعظم ما تكون في أجسامها فتمر على أربابها فتطؤهم بأظلافها وتنطحهم بقرونها كلما نفدت أخراها عادت إليهم أولاها فلا يزال كذلك حتى يفرغ الناس من الحساب.
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ٤٠
المسألة الرابعة : الصحيح عندنا وجوب الزكاة في الحلي، والدليل عليه قوله تعالى :﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾.
فإن قيل : هذا الوعيد إنما يتناول الرجال لا النساء.
قلنا : نتكلم في الرجل الذي اتخذ الحلي لنسائه، وأيضاً ترتيب هذا الوعيد على جمع الذهب والفضة حكم مرتب على وصف يناسبه، وهو أن جمع ذلك المال يمنعه من صرفه إلى المحتاجين مع أنه لا حاجة إليه، إذ لو احتاج إلى إنفاقه لما قدر على جمعه، وإقدام غير المحتاج على منع المال من المحتاج يناسب أن يمنع منه، فثبت أن هذا الوعيد مرتب على وصف يناسبه، والحكم المذكور عقيب وصف يناسبه يجب كونه معللاً به، فثبت أن هذا الوعيد لذلك الجمع، فأينما حصل ذلك الوصف وجب أن يحصل معه ذلك الوعيد، وأيضاً أن العمومات الواردة في إيجاب الزكاة موجودة في الحلي المباح قال عليه السلام :"هاتوا ربع عشر أموالكم" وقال :"في الرقة ربع العشر" وقال :"يا علي عليك زكاة، فإذا ملكت عشرين مثقالاً، فأخرج نصف مثقال" وقال :"ليس في المال حق سوى الزكاة وقال لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول" فهذه الآية مع جميع هذه الأخبار توجب الزكاة في الحلي المباح، ثم نقول ولم يوجد لهذا الدليل معارض من الكتاب، وهو ظاهر لأنه ليس في القرآن ما يدل على أنه زكاة في الحلي المباح، ولم يوجد في الأخبار أيضاً معارض إلا أن / أصحابنا نقلوا فيه خبراً، وهو قوله عليه السلام :"لا زكاة في الحلي المباح" إلا أن أبا عيسى الترمذي قال : لم يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم في الحلي خبر صحيح، وأيضاً بتقدير أن يصح هذا الخبر فنحمله على اللآلىء لأنه قال : لا زكاة في الحلي، ولفظ الحلي مفرد محلى بالألف واللام، وقد دللنا على أنه لو كان هناك معهود سابق، وجب انصرافه إليه والمعهود في القرآن في لفظ الحلي اللآلىء. قال تعالى :﴿وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا﴾ (النحل : ١٤) وإذا كان كذلك انصرف لفظ الحلي إلى اللآلىء، فسقطت دلالته، وأيضاً الاحتياط في القول بوجوب الزكاة، وأيضاً لا يمكن معارضة هذا النص بالقياس، لأن النص خير من القياس. فثبت أن الحق ما ذكرناه.
المسألة الخامسة : أنه تعالى ذكر شيئين وهما الذهب والفضة.
ثم قال :﴿وَلا يُنفِقُونَهَا﴾ وفيه وجهان : الأول : أن الضمير عائد إلى المعنى من وجوه : أحدها : أن كل واحد منهما جملة وآنية دنانير ودراهم، فهو كقوله تعالى :﴿وَإِن طَآاـاِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا ﴾ (الحجرات : ٩) وثانيها : أن يكون التقدير، ولا ينفقون الكنوز. وثالثها : قال الزجاج : التقدير : ولا ينفقون تلك الأموال.
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ٤٠