قلنا : إن هذا المعنى غير مستبعد في الشرائع، فإن أمثلته كثيرة. ألا ترى أنه تعالى ميز البلد الحرام عن سائر البلاد بمزيد الحرمة، وميز يوم الجمعة عن سائر أيام الأسبوع بمزيد الحرمة، وميز يوم عرفة عن سائر الأيام بتلك العبادة المخصوصة، وميز شهر رمضان عن سائر الشهور بمزيد حرمة وهو وجوب الصوم. وميز بعض ساعات اليوم بوجوب الصلاة فيها. وميز بعض الليالي عن سائرها وهي ليلة القدر/ وميز بعض الأشخاص عن سائر الناس بإعطاء خلعة الرسالة. وإذا كانت هذه الأمثلة ظاهرة مشهورة، فأي استبعاد في تخصيص بعض الأشهر بمزيد الحرمة، ثم نقول : لا يبعد أن يعلم الله تعالى أن وقوع الطاعة في هذه الأوقات أكثر تأثيراً في طهارة النفس، ووقوع المعاصي فيها أقوى تأثيراً في خبث النفس، وهذا غير مستبعد عند الحكماء، ألا ترى أن فيهم من صنف كتباً في الأوقات التي ترجى فيها إجابة الدعوات، وذكروا أن تلك الأوقات المعينة حصلت فيها أسباب توجب ذلك. وسئل النبي عليه الصلاة والسلام : أي الصيام أفضل ؟
فقال عليه الصلاة والسلام :"أفضله بعد صيام شهر رمضان صيام شهر الله المحرم" وقال عليه الصلاة والسلام :"من صام يوماً من أشهر الله الحرم كان له بكل يوم ثلاثون يوماً" وكثير من الفقهاء غلظوا الدية على القاتل بسبب وقوع القتل في هذه الاْشهر، وفيه فائدة أخرى : وهي أن الطباع مجبولة على الظلم والفساد وامتناعهم من هذه القبائح على الإطلاق شاق عليهم، فالله سبحانه وتعالى خص بعض الأوقات بمزيد التعظيم والاحترام، وخص بعض الأماكن بمزيد التعظيم والاحترام، حتى أن الإنسان ربما امتنع في تلك الأزمنة وفي تلك الأمكنة من القبائح والمنكرات، وذلك يوجب أنواعاً من الفضائل والفوائد : أحدها : أن ترك تلك القبائح في تلك الأوقات أمر مطلوب، لأنه يقل القبائح. وثانيها : أنه لما تركها في تلك الأوقات فربما صار تركه لها في تلك الأوقات سبباً لميل طبعه إلى الإعراض عنها مطلقاً. وثالثها : أن الإنسان إذا أتى بالطاعات في تلك الأوقات وأعرض عن المعاصي فيها، فبعد انقضاء تلك الأوقات لو شرع في القبائح والمعاصي صار شروعه فيها سبباً لبطلان ما تحمله من العناء والمشقة في أداء تلك الطاعات في تلك الأوقات، والظاهر من حال العاقل أن لا يرضى بذلك فيصير ذلك سبباً لاجتنابه عن المعاصي بالكلية، فهذا هو الحكمة في تخصيص بعض الأوقات وبعض / البقاع بمزيد التعظيم والاحترام.
ثم قال تعالى :﴿ذَالِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ﴾ وفيه بحثان :
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ٤٤
البحث الأول : أن قوله :﴿ذَالِكَ﴾ إشارة إلى قوله :﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا﴾ لا أزيد ولا أنقص أو إلى قوله :﴿مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ﴾ وعندي أن الأول أولى، لأن الكفار سلموا أن أربعة منها حرم، إلا أنهم بسبب الكبسة ربما جعلوا السنة ثلاثة عشر شهراً، وكانوا يغيرون مواقع الشهور، والمقصود من هذه الآية الرد على هؤلاء، فوجب حمل اللفظ عليه.
البحث الثاني : في تفسير لفظ الدين وجوه : الأول : أن الدين قد يراد به الحساب. يقال : الكيس من دان نفسه أي حاسبها، والقيم معناه المستقيم. فتفسير الآية على هذا التقدير، ذلك الحساب المستقيم الصحيح والعدل المستوفى. الثاني : قال الحسن : ذلك الذين القيم الذي لا يبدل ولا يغير، فالقيم ههنا بمعنى القائم الذي لا يبدل ولا يغير، الدائم الذي لا يزول، وهو الدين الذي فطر الناس عليه. الثالث : قال بعضهم : المراد أن هذا التعبد هو الدين اللازم في الإسلام. وقال القاضي : حمل لفظ الدين على العبادة أولى من حمله على الحساب، لأنه مجاز فيه، ويمكن أن يقال : الأصل في لفظ الدين الانقياد. يقال : يا من دانت له الرقاب، أي انقادت، فالحساب يسمى ديناً، لأنه يوجب الانقياد، والعدة تسمى ديناً، فلم يكن حمل هذا اللفظ على التعبد أولى من حمله على الحساب. قال أهل العلم : الواجب على المسلمين بحكم هذه الآية أن يعتبروا في بيوعهم ومدد ديونهم وأحوال زكواتهم وسائر أحكامهم السنة العربية بالأهلة، ولا يجوز لهم اعتبار السنة العجمية والرومية.
ثم قال تعالى :﴿فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ ﴾ وفيه بحثان :


الصفحة التالية
Icon