الوجه الحادي عشر : من الوجوه الدالة على فضل أبي بكر من هذه الآية إطباق الكل على أن أبا بكر هو الذي اشترى الراحلة لرسول الله صلى الله عليه وسلّم وعلى أن عبد الرحمن بن أبي بكر وأسماء بنت أبي بكر هما اللذان كانا يأتيانهما بالطعام. روي أنه عليه الصلاة والسلام قال :"لقد كنت أنا وصاحبي في الغار بضعة عشر يوماً وليس لنا طعام إلا التمر" وذكروا أن جبريل أتاه وهو جائع فقال هذه أسماء قد أتت بحيس، ففرح رسول الله صلى الله عليه وسلّم بذلك وأخبر به أبا بكر. ولما أمر الله رسوله بالخروج إلى المدينة أظهره لأبي بكر، فأمر ابنه عبد الرحمن أن يشتري / جملين ورحلين وكسوتين، ويفصل أحدهما للرسول عليه الصلاة والسلام. فلما قربا من المدينة وصل الخبر إلى الأنصار فخرجوا مسرعين، فخاف أبو بكر أنهم لا يعرفون الرسول عليه الصلاة والسلام فألبس رسول الله ثوبه، ليعرفوا أن الرسول هو هو، فلما دنوا خروا له سجداً فقال لهم :"اسجدوا لربكم وأكرموا أخاً لكم" ثم أناخت ناقته بباب أبي أيوب روينا هذه الروايات من تفسيرأبي بكر الأصم.
الوجه الثاني عشر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم حين دخل المدينة ما كان معه إلا أبو بكر، والأنصار ما رأوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم أحداً إلا أبا بكر، وذلك يدل على أنه كان يصطفيه لنفسه من بين أصحابه في السفر والحضر، وأن أصحابنا زادوا عليه وقالوا : لما لم يحضر معه في ذلك السفر أحد إلا أبو بكر، فلو قدرنا أنه توفى رسول الله صلى الله عليه وسلّم في ذلك السفر لزم أن لا يقوم بأمره إلا أبو بكر وأن لا يكون وصيه على أمته إلا أبو بكر، وأن لا يبلغ ما حدث من الوحي والتنزيل في ذلك الطريق إلى أمته إلا أبو بكر، وكل ذلك يدل على الفضائل العالية والدرجات الرفيعة لأبي بكر.
واعلم أن الروافض احتجوا بهذه الآية وبهذه الواقعة على الطعن في أبي بكر من وجوه ضعيفة حقيرة جارية مجرى إخفاء الشمس بكف من الطين : فالأول : قالوا إنه عليه الصلاة والسلام قال لأبي بكر :"لا تحزن" فذلك الحزن إن كان حقاً فكيف نهى الرسول عليه الصلاة والسلام عنه ؟
وإن كان خطأ، لزم أن يكون أبو بكر مذنباً وعاصياً في ذلك الحزن، والثاني : قالوا يحتمل أن يقال : إنه استخلصه لنفسه لأنه كان يخاف منه أنه لو تركه في مكة أن يدل الكفار عليه، وأن يوقفهم على أسراره ومعانيه، فأخذه مع نفسه دفعاً لهذا الشر. والثالث : وإن دلت هذه الحالة على فضل أبي بكر إلا أنه أمر علياً بأن يضطجع على فراشه، ومعلوم أن الاضطجاع على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلّم في مثل تلك الليلة الظلماء مع كون الكفار قاصدين قتل رسول الله تعريض النفس للفداء، فهذا العمل من علي، أعلى وأعظم من كون أبي بكر صاحباً للرسول، فهذه جملة ما ذكروه في ذلك الباب.
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ٥٥
والجواب عن الأول : أن أبا علي الجبائي لما حكى عنهم تلك الشبهة، قال : فيقال لهم يجب في قوله تعالى لموسى عليه السلام :﴿لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الاعْلَى ﴾ (طه : ٦٨) أن يدل على أنه كان عاصياً في خوفه، وذلك طعن في الأنبياء، ويجب في قوله تعالى في إبراهيم، حيث قالت الملائكة له :﴿لا تَخَفْ﴾ في قصة العجل المشوي مثل ذلك، وفي قولهم للوط :﴿لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْا إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ﴾ (العنكبوت : ٣٣) مثل ذلك.
فإذا قالوا : إن ذلك الخوف إنما حصل بمقتضى البشرية، وإنما ذكر الله تعالى ذلك في قوله :﴿لا تَخَفْ﴾ ليفيد الأمن، وفراغ القلب.
قلنا لهم في هذه المسألة كذلك.
فإن قالوا : أليس إنه تعالى قال :﴿وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ﴾ (المائدة : ٦٧) فكيف خاف مع سماع هذه الآية ؟
فنقول : هذه الآية إنما نزلت في المدينة، وهذه الواقعة سابقة على نزولها، وأيضاً فهب أنه كان آمناً على عدم القتل، ولكنه ما كان آمناً من الضرب، والجرح والإيلام الشديد. والعجب منهم، فإنا لو قدرنا أن أبا بكر ما كان خائفاً، لقالوا إنه فرح بسبب وقوع الرسول في البلاء، ولما خاف وبكى قالوا : هذا السؤال الركيك، وذلك يدل على أنهم لا يطلبون الحق، وإنما مقصودهم محض الطعن
والجواب عن الثاني : أن الذي قالوه أخس من شبهات السوفسطائية، فإن أبا بكر لو كان قاصداً له، لصالح بالكفار عند وصولهم إلى باب الغار، وقال لهم نحن ههنا، ولقال ابنه وابنته عبد الرحمن وأسماء للكفار نحن نعرف مكان محمد فندلكم عليه، فنسأل الله العصمة من عصبية تحمل الإنسان على مثل هذا الكلام الركيك.


الصفحة التالية
Icon