المسألة الرابعة : قوله :﴿فَهُمْ فِى رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ﴾ معناه أن الشاك المرتاب يبقى متردداً بين النفي والإثبات، غير حاكم بأحد القسمين ولا جازم بأحد النقيضين. وتقريره : أن الاعتقاد إما أن يكون جازماً أو لا يكون، فالجازم إن كان غير مطابق فهو الجهل وإن كان مطابقاً، فإن كان غير يقين فهو العلم، وإلا فهو اعتقاد المقلد. وإن كان غير جازم، فإن كان أحد الطرفين راجحاً فالراجح هو الظن والمرجوح هو الوهم. وإن اعتدل الطرفان فهو الريب والشك، وحينئذ يبقى الإنسان متردداً بين الطرفين.
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ٦٣
ثم قال تعالى :﴿وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لاعَدُّوا لَه عُدَّةً﴾ قرىء وقرىء أيضاً ﴿إِنَّ عِدَّةَ﴾ بكسر العين بغير إضافة وبإضافة، قال ابن عباس : يريد من الزاد والماء والراحلة، لأن سفرهم بعيد وفي زمان شديد، وتركهم العدة دليل على أنهم أرادوا التخلف. وقال آخرون : هذا إشارة إلى أنهم كانوا مياسير قادرين على تحصيل الأهبة والعدة.
ثم قال تعالى :﴿وَلَـاكِن كَرِهَ اللَّهُ انابِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ﴾ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : الانبعاث : الانطلاق في الأمر، يقال بعثت البعير فانبعث وبعثته لأمر كذا فانبعث، وبعثه لأمر كذا أي نفذه فيه، والتثبيط رد الإنسان على الفعل الذي هم به، والمعنى : أنه تعالى كره خروجهم مع الرسول صلى الله عليه وسلّم فصرفهم عنه.
فإن قيل : إن خروجهم مع الرسول إما أن يقال إنه كان مفسدة وإما أن يقال إنه كان مصلحة.
فإن قلنا : إنه كان مفسدة، فلم عاتب الرسول في إذنه إياهم في القعود ؟
وإن قلنا : إنه كان مصلحة، فلم قال إنه تعالى كره انبعاثهم وخروجهم ؟
والجواب الصحيح : أن خروجهم مع الرسول ما كان مصلحة، بدليل أنه تعالى صرح بعد هذه الآية وشرح تلك المفاسد وهو قوله :﴿لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلا خَبَالا﴾ (التوبة : ٤٧) بقي أن يقال فلما كان الأصوب الأصلح أن لا يخرجوا، فلم عاتب الرسول في الإذن ؟
فنقول : قد حكينا عن أبي مسلم أنه قال : ليس في قوله ﴿لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ﴾ أنه عليه الصلاة والسلام كان قد أذن لهم في القعود، بل يحتمل أن يقال إنهم استأذنوه في الخروج معه فأذن لهم، وعلى هذا التقدير فإنه يسقط السؤال، قال أبو مسلم والدليل على صحة ما قلنا إن هذه الآية دلت على أن خروجهم معه كان مفسدة، فوجب حمل ذلك العتاب على أنه عليه الصلاة والسلام أذن لهم في الخروج معه، وتأكد ذلك بسائر الآيات/ منها قوله تعالى :﴿فَإِن رَّجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَـاْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخْرُجُوا مَعِىَ أَبَدًا﴾ (التوبة : ٨٣) ومنها قوله تعالى :﴿سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ﴾ (الفتح : ١٥) إلى قوله :﴿قُل لَّن تَتَّبِعُونَا﴾ فهذا دفع هذا السؤال على طريقة أبي مسلم.
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ٦٣
والوجه الثاني : من الجواب أن نسلم أن العتاب في قوله :﴿لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ﴾ إنما توجه لأنه عليه الصلاة والسلام أذن لهم في القعود، فنقول : ذلك العتاب ما كان لأجل أن ذلك القعود كان مفسدة، بل لأجل أن إذنه عليه الصلاة والسلام بذلك القعود كان مفسدة وبيانه من وجوه : الأول : أنه عليه الصلاة والسلام أذن قبل إتمام التفحص وإكمال التأمل والتدبر، ولهذا السبب قال تعالى :﴿لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَـاذِبِينَ﴾ والثاني : أن بتقدير أنه عليه الصلاة والسلام ما كان يأذن لهم في القعود ؛ فهم كانوا يقعدون من تلقاء أنفسهم، وكان يصير ذلك القعود / علامة على نفاقهم، وإذا ظهر نفاقهم احترز المسلمون منهم ولم يغتروا بقولهم، فلما أذن الرسول في القعود بقي نفاقهم مخفياً وفاتت تلك المصالح. والثالث : أنهم لما استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم غضب عليهم وقال :﴿اقْعُدُوا مَعَ الْقَـاعِدِينَ﴾ على سبيل الزجر كما حكاه الله في آخر هذه الآية وهو قوله :﴿وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَـاعِدِينَ﴾ ثم إنهم اغتنموا هذه اللفظة وقالوا : قد أذن لنا فقال تعالى :﴿لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ﴾ أي لم ذكرت عندهم هذا اللفظ الذي أمكنهم أن يتوسلوا به إلى تحصيل غرضهم ؟
الرابع : أن الذين يقولون الاجتهاد غير جائز على الأنبياء عليهم السلام قالوا : إنه إنما أذن بمقتضى الاجتهاد، وذلك غير جائز، لأنهم لما تمكنوا من الوحي وكان الإقدام على الاجتهاد مع التمكن من الوحي جارياً مجرى الإقدام على الاجتهاد مع حصول النص، فكما أن هذا غير جائز فكذا ذاك.


الصفحة التالية
Icon