جزء : ١٦ رقم الصفحة : ٧٤
٧٥
اعلم أنه تعالى لما بين كونهم مستجمعين لكل مضار الآخرة والدنيا، خائبين عن جميع منافع الآخرة والدنيا، عاد إلى ذكر قبائحهم وفضائحهم، وبين إقدامهم على الأيمان الكاذبة فقال :﴿وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ﴾ أي المنافقون للمؤمنين إذا جالسوهم ﴿إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ﴾ أي على دينكم.
ثم قال تعالى :﴿وَمَا هُم مِّنكُمْ﴾ أي ليسوا على دينكم ﴿وَلَـاكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ﴾ القتل، فأظهروا الإيمان وأسروا النفاق، وهو كقوله تعالى :﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ ءَامَنُوا قَالُوا ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَـاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ﴾ (البقرة : ١٤) والفرق الخوف، ومنه يقال : رجل فروق. وهو الشديد الخوف، ومنها : أنهم لو وجدوا مفراً يتحصنون فيه آمنين على أنفسهم منكم لفروا إليه ولفارقوكم، فلا تظنوا أن موافقتهم إياكم في الدار والمسكن عن القلب، فقوله :﴿لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَـاًا﴾ الملجأ : المكان الذي يتحصن فيه، ومثله اللجأ مقصوراً مهموزاً، وأصله من لجأ إلى كذا يلجأ لجأ بفتح اللام وسكون الجيم، ومثله التجأ والجأته إلى كذا، أي جعلته مضطراً إليه، وقوله :﴿أَوْ مَغَـارَاتٍ﴾ هي جمع مغارة، وهي الموضع الذي يغور الإنسان فيه، أي يستتر. قال أبو عبيد : كل شيء جزت فيه فغبت فهو مغارة لك، ومنه غار الماء في الأرض وغارت العين. وقوله :﴿مُدَّخَلا﴾ قال الزجاج : أصله مدتخل والتاء بعد الدال تبدل دالاً، لأن التاء مهموسة، والدال مهجورة، وهما من مخرج واحد وهو مفتعل من الدخول، كالمتلج من الولوج. ومعناه : المسلك الذي يستتر بالدخول فيه. قال الكلبي وابن زيد : نفقا كنفق اليربوع. والمعنى : أنهم لو جدوا مكاناً على أحد هذه الوجوه الثلاثة، مع أنها شر الأمكنة ﴿لَّوَلَّوْا إِلَيْهِ﴾ أي رجعوا إليه. يقال : ولى بنفسه إذا انصرف وولى غيره إذا صرفه وقوله :﴿وَهُمْ يَجْمَحُونَ﴾ أي يسرعون إسراعاً لا يرد وجوههم شيء، ومن هذا يقال : جمح الفرس وهو فرس جموح، وهو الذي إذا حمل لم يرده اللجام، والمراد من الآية أنهم من شدة تأذيهم من الرسول ومن المسلمين صاروا بهذه الحالة.
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ٧٥
واعلم أنه تعالى ذكر ثلاثة أشياء وهي : الملجأ، والمغارات، والمدخل، والأقرب أن يحمل كل واحد منها على غير ما يحمل الآخر عليه، فالملجأ يحتمل الحصون، والمغارات الكهوف في الجبال، والمدخل السرب تحت الأرض نحو الآبار. قال صاحب "الكشاف" : قرىء ﴿مُدَّخَلا﴾ من دخل و﴿مُدَّخَلا﴾ من أدخل وهو مكان يدخلون فيه أنفسهم، وقرأ أبي بن كعب وقرأ ﴿ءَاوَى ا إِلَيْهِ﴾ أي لالتجاؤا، وقرأ أنس فسئل عنه فقال : يجمحون ويجمزون ويشتدون واحد.
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ٧٥
٧٧
اعلم أن المقصود من هذا شرح نوع آخر من قبائحهم وفضائحهم، وهو طعنهم في الرسول بسبب أخذ الصدقات من الأغنياء ويقولون : إنه يؤثر بها من يشاء من أقاربه وأهل مودته وينسبونه إلى أنه لا يراعي العدل، وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه : بينا النبي صلى الله عليه وسلّم يقسم مالاً إذ جاءه المقداد بن ذي الخويصرة التميمي، وهو حرقوص بن زهير، أصل الخوارج فقال : اعدل يا رسول الله، فقال :"ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل" فنزلت هذه الآية. قال الكلبي : قال رجل من المنافقين يقال له أبو الجواظ لرسول الله صلى الله عليه وسلّم : تزعم أن الله أمرك أن تضع الصدقات في الفقراء والمساكين ولم تضعها في رعاء الشاء ؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم :"لا أبالك أما كان موسى راعياً أما كان داود راعياً" فلما ذهب، قال عليه الصلاة والسلام :"احذروا هذا وأصحابه فإنهم منافقون" وروى أبو بكر الأصم رضي الله عنه في "تفسيره" : أنه صلى الله عليه وسلّم قال لرجل من أصحابه :"ما علمك بفلان" فقال : مالي به علم إلا إنك ندنيه في المجلس وتجزل له العطاء، فقال عليه الصلاة والسلام :"إنه منافق أداري عن نفاقه وأخاف أن يفسد على غيره" فقال : لو أعطيت فلاناً بعض ما تعطيه، فقال عليه الصلاة والسلام :"إنه مؤمن أكله إلى إيمانه، وأما هذا فمنافق أداريه خوف إفساده".
المسألة الثانية : قوله :﴿مَّن يَلْمِزُكَ﴾ قال الليث : اللمز كالهمز في الوجه. يقال : رجل لمزة يعيبك في وجهك، ورجل همزة يعيبك بالغيب. وقال الزجاج : يقال لمزت الرجل ألمزه بالكسر، وألمزه بضم الميم إذا عيبته، وكذلك همزته أهمزه همزاً. إذا عيبته، والهمزة اللمزة : الذي يغتاب الناس ويعيبهم، وهذا يدل على أن الزجاج لم يفرق بين الهمز واللمز. قال الأزهري : وأصل الهمز / واللمز الدفع. يقال : همزته ولمزته إذا دفعته، وفرق أبو بكر الأصم بينهما، فقال : اللمز أن يشير إلى صاحبه بعيب جليسه، والهمز أن يكسر عينه على جليسه إلى صاحبه.
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ٧٧


الصفحة التالية
Icon