إذا عرفت هذا فنقول : قال ابن عباس : يلمزك يغتابك. وقال قتادة : يطعن عليك. وقال الكلبي : يعيبك في أمر ما، ولا تفاوت بين هذه الروايات إلا في الألفاظ. قال أبو علي الفارسي : ههنا محذوف والتقدير : يعيبك في تفريق الصدقات. قال مولانا العلامة الداعي إلى الله : لفظ القرآن وهو قوله :﴿وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَـاتِ﴾ لا يدل على أن ذلك اللمز كان لهذا السبب، إلا أن الروايات التي ذكرناها دلت أن سبب اللمز هو ذلك، ولولا هذه الروايات لكان يحتمل وجوهاً أخر سواها. فأحدها : أن يقولوا أخذ الزكوات مطلقاً غير جائز، لأن انتزاع كسب الإنسان من يده غير جائز. أقصى ما في الباب أن يقال : يأخذها ليصرفها إلى الفقراء إلا أن الجهال منهم كانوا يقولون إن الله تعالى أغنى الأغنياء، فوجب أن يكون هو المتكفل بمصالح عبيده الفقراء : فأما أن يأمرنا بذلك فهو غير معقول. فهذا هو الذي حكاه الله تعالى عن بعض اليهود، وهو أنهم قالوا :﴿إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ ﴾ وثانيها : أن يقولوا هب أنك تأخذ الزكوات إلا أن الذي تأخذه كثير، فوجب أن تقنع بأقل من ذلك. وثالثها : أن يقولوا هب أنك تأخذ هذا الكثير إلا أنك تصرفه إلى غير مصرفه. وهذا هو الذي دلت الأخبار على أن القوم أرادوه. قال أهل المعاني : هذه الآية تدل على ركاكة أخلاق أولئك المنافقين ودناءة طباعهم، وذلك لأنه لشدة شرههم إلى أخذ الصدقات عابوا الرسول فنسبوه إلى الجور في القسمة، مع أنه كان أبعد خلق الله تعالى عن الميل إلى الدنيا. قال الضحاك : كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقسم بينهم ما آتاه الله من قليل المال وكثيره، وكان المؤمنون يرضون بما أعطوا ويحمدون الله عليه. وأما المنافقون : فإن أعطوا كثيراً فرحوا وإن أعطوا قليلاً سخطوا، وذلك يدل على أن رضاهم وسخطهم لطلب النصيب لا لأجل الدين. وقيل : إن النبي صلى الله عليه وسلّم كان يستعطف قلوب أهل مكة يومئذ بتوفر الغنائم عليهم، فسخط المنافقون. وقوله :﴿إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ﴾ كلمة ﴿إِذَا﴾ للمفاجأة، أي وإن لم يعطوا منها فاجؤا السخط.
ثم قال :﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْا ﴾ الآية والمعنى : ولو أنهم رضوا بما أعطاهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم من الغنيمة وطابت نفوسهم وإن قل، وقالوا : كفانا ذلك وسيرزقنا الله غنيمة أخرى، فيعطينا رسول الله صلى الله عليه وسلّم أكثر مما أعطانا اليوم، إنا إلى طاعة الله وإفضاله وإحسانه لراغبون.
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ٧٧
واعلم أن جواب "لو" محذوف، والتقدير : لكان خيراً لهم وأعود عليهم، وذلك لأنه غلب / عليهم النفاق ولم يحضر الإيمان في قلوبهم، فيتوكلوا على الله حق توكله، وترك الجواب في هذا المعرض أدل على التعظيم والتهويل، وهو كقولك للرجل : لو جئتنا، ثم لا تذكر الجواب، أي لو فعلت ذلك لرأيت أمراً عظيماً.
المسألة الثانية : الآية تدل على أن من طلب الدنيا آل أمره في الدين إلى النفاق. وأما من طلب الدنيا بقدر ما أذن الله فيه، وكان غرضه من الدنيا أن يتوسل إلى مصالح الدين فهذا هو الطريق الحق، والأصل في هذا الباب أن يكون راضياً بقضاء الله، ألا ترى أنه قال :﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْا مَآ ءَاتَـاـاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُه وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِن فَضْلِه وَرَسُولُه ا إِنَّآ إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ﴾ فذكر فيه مراتب أربعة :
المرتبة الأولى : الرضا بما آتاهم الله ورسوله لعلمه بأنه تعالى حكيم منزه عن العبث والخطأ، وحكيم بمعنى أنه عليم بعواقب الأمور، وكل ما كان حكماً له وقضاء كان حقاً وصواباً ولا عتراض عليه.
والمرتبة الثانية : أن يظهر آثار ذلك الرضا على لسانهم، وهو قوله :﴿وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ﴾ يعني أن غيرنا أخذوا المال ونحن لما رضينا بحكم الله وقضائه فقد فزنا بهذه المرتبة العظيمة في العبودية، فحسبنا الله.
والمرتبة الثالثة : وهي أن الإنسان إذا لم يبلغ إلى تلك الدرجة العالية التي عندها يقول :﴿حَسْبُنَا اللَّهُ﴾ نزل منها إلى مرتبة أخرى وهي أن يقول :﴿سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِن فَضْلِه وَرَسُولُه ﴾ إما في الدنيا إن اقتضاه التقدير، وإما في الآخرة وهي أولى وأفضل.


الصفحة التالية
Icon