وأما العقل : فهو أن الحكم الثابت في مجموع لا يوجب ثبوته في كل جزء من أجزاء ذلك المجموع، ولا يلزم أن لا يبقى فرق بين الكل وبين الجزء. فثبت بما ذكرنا أن لفظ الآية لا دلالة فيه على ما ذكره، والذي يدل على صحة قولنا وجوه : الأول : أن الرجل الذي لا يملك إلا عشرين ديناراً لما وجب عليه إخراج نصف دينار، فلو كلفناه أن نجعله على أربعة وعشرين قسماً لصار كل واحد من تلك الأقسام حقيراً صغيراً غير منتفع به في مهم معتبر. الثاني : أن هذا التوقيف لو كان معتبراً لكان أولى الناس برعايته أكابر الصحابة، ولو كان الأمر كذلك لوصل هذا الخبر إلى عمر بن الخطاب وإلى ابن عباس وحذيفة وسائر الأكابر، ولو كان كذلك لما خالفوا فيه، وحيث خالفوا فيه علمنا أنه غير معتبر. الثالث : وهو أن الشافعي رحمه الله له اختلاف رأي في جواز نقل الصدقات أما لم يقل أحد بوجوب نقل الصدقات، فالإنسان إذا كان في بعض القرى ولا يكون هناك مكاتب ولا مجاهد غاز ولا عامل ولا أحد من المؤلفة، ولا يمر به أحد من الغرباء، واتفق أنه لم يحضر في تلك القرية من كان مديوناً فكيف تكليفه ؟
فإن قلنا : وجب عليه أن يسافر بما وجب عليه / من الزكاة إلى بلد يجد هذه الأصناف فيه، فذاك قول لم يقل به أحد وإذا أسقطنا عنه ذلك فحينئذ يصح قولنا فهذا ما نقوله في هذا الباب. والله أعلم.
المسألة الرابعة : في تعريف الأصناف الثمانية، فالأول والثاني هم الفقراء والمساكين، ولا شك أنهم هم المحتاجون الذي لا يفي خرجهم بدخلهم. ثم اختلفوا فقال بعضهم : الذي يكون أشد حاجة هو الفقير ؛ وهو قول الشافعي رحمه الله وأصحابه. وقال آخرون : الذي أشد حاجة هو المسكين، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه رحمهم الله، ومن الناس من قال : لا فرق بين الفقراء والمساكين، والله تعالى وصفهم بهذين الوصفين، والمقصود شيء واحد وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله، واختيار أبي علي الجبائي، وفائدته تظهر في هذه المسألة، وهو أنه لو أوصى لفلان وللفقراء والمساكين/ فالذين قالوا : الفقراء غير المساكين قالوا لفلان الثلث، والذين قالوا : الفقراء هم المساكين قالوا لفلان النصف. وقال الجبائي : إنه تعالى ذكرهم باسمين لتوكيد أمرهم في الصدقات لأنهم هم الأصول في الأصناف الثمانية. وأيضاً الفائدة فيه أن يصرف إليهم من الصدقات سهمان لا كسائرهم.
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ٨٩
واعلم أن فائدة هذا الاختلاف لا تظهر في تفرقة الصدقات وإنما تظهر في الوصايا، وهو أن رجلاً لو قال : أوصيت للفقراء بمائتين وللمساكين بخمسين، وجب دفع المائتين عند الشافعي رحمه الله من كان أشد حاجة، وعند أبي حنيفة رحمه الله إلى من كان أقل حاجة، وحجة الشافعي رحمه الله وجوه :
الوجه الأول : أنه تعالى إنما أثبت الصدقات لهؤلاء الأصناف دفعاً لحاجتهم وتحصيلاً لمصلحتهم، وهذا يدل عى أن الذي وقع الابتداء بذكره يكون أشد حاجة، لأن الظاهر وجوب تقديم الأهم على المهم ألا ترى أنه يقال : أبو بكر وعمر ومن فضل عثمان على علي عليه السلام قال في ذكرهما عثمان وعلي، ومن فضل علياً على عثمان يقول علي وعثمان، وأنشد عمر قول الشاعر :
كفى الشيب والإسلام للمرء ناهياً
فقال هلا قدم الإسلام على الشيب ؟
فلما وقع الابتداء بذكر الفقراء وجب أن تكون حاجتهم أشد من حاجة المساكين.
الوجه الثاني : قال أحمد بن عبيد الفقير أسوأ حالاً من المسكين، لأن الفقير أصله في اللغة المفقور الذي نزعت فقرة من فقار ظهره، فصرف عن مفقور إلى فقير كما قيل : مطبوخ وطبيخ، ومجروح وجريح، فثبت أن الفقير إنما سمي فقيراً لزمانته مع حاجته الشديدة وتمنعه الزمانة من / التقلب في الكسب ومعلوم أنه لا حال في الإقلال والبؤس آكد من هذه الحال وأنشدوا للبيد :
لما رأى لبد النسور تطايرت
رفع القوادم كالفقير الأعزل
قال ابن الأعرابي في هذا البيت الفقير المكسور الفقار، يضرب مثلاً لكل ضعيف لا يتقلب في الأمور، ومما يدل على إشعار لفظ الفقير بالشدة العظيمة قوله تعالى :﴿وَوُجُوهٌ يَوْمَـاـاِذا بَاسِرَةٌ * تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ﴾ (القيامة : ٢٤، ٢٥) جعل لفظ الفاقرة كناية عن أعظم أنواع الشر والدواهي.
الوجه الثالث : ما روي أنه عليه الصلاة والسلام، كان يتعوذ من الفقر، وقال :"كاد الفقر أن يكون كفراً" ثم قال :"اللهم أحيني مسكيناً وأمتني مسكيناً واحشرني في زمرة المساكين" فلو كان المسكين أسوأ حالاً من الفقير لتناقض الحديثان، لأنه تعوذ من الفقر، ثم سأل حالاً أسوأ منه، أما إذا قلنا الفقر أشد من المسكنة فلا تناقض البتة.
الوجه الرابع : أن كونه مسكيناً، لا ينافي كونه مالكاً للمال بدليل قوله تعالى :﴿أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَـاكِينَ﴾ (الكهف : ٧٩) فوصف بالمسكنة من له سفينة من سفن البحر تساوي جملة من الدنانير، ولم نجد في كتاب الله ما يدل على أن الإنسان سمي فقيراً مع أنه يملك شيئاً.
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ٨٩