فإن قالوا : الدليل عليه قوله تعالى :﴿وَاللَّهُ الْغَنِىُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَآءُ ﴾ (محمد : ٣٨) فوصف الكل، بالفقر مع أنهم يملكون أشياء.
قلنا : هذا بالضد أولى لأنه تعالى وصفهم بكونهم فقراء بالنسبة إلى الله تعالى، فإن أحداً سوى الله تعالى لا يملك البتة شيئاً بالنسبة إلى الله فصح قولنا.
الوجه الخامس : قوله تعالى :﴿أَوْ إِطْعَـامٌ فِى يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ﴾ (البلد : ١٤ ـ ١٦) والمراد منه المسكين ذي المتربة الفقير الذي يذ ألصق بالتراب من شدة الفقر، فتقييد المسكين بهذا القيد يدل على أنه قد يحصل مسكين خال عن وصف كونه ﴿ذَا مَتْرَبَةٍ﴾ وإنما يكون كذلك بتقدير أن يملك شيئاً/ فهذا يدل على أن كونه مسكيناً لا ينافي كونه مالكاً لبعض الأشياء.
الوجه السادس : قال ابن عباس رضي الله عنهما، الفقير هو المحتاج الذي لا يجد شيئاً، قال : وهم أهل الصفة، صفة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلّم وكانوا نحو أربعمائة رجل لا منزل لهم، فمن كان من المسلمين عنده فضل أتاهم به إذا أمسوا، والمساكين هم الطوافون الذين يسألون الناس.
وجه الاستدلال : أن شدة فقر أهل الصفة معلومة بالتواتر، فلما فسر ابن عباس الفقراء بهم وفسر المساكين بالطوافين، ثم ثبت أن أحوال المحتاج الذي لا يسأل أحداً شيئاً أشد من أحوال من يحتاج، ثم يسأل الناس ويطوف عليهم، ظهر أن الفقير يجب أن يكون أسوأ حالاً من المسكين.
الوجه السابع : أن المسكنة لفظ مأخوذ من السكون، فالفقير إذا سأل الناس وتضرع إليهم وعلم أنه متى تضرع إليهم أعطوه شيئاً فقد سكن قلبه، وزال عنه الخوف والقلق، ويحتمل أنه سمي بهذا الاسم ؛ لأنه إذا أجيب بالرد ومنع سكن ولم يضطرب وأعاد السؤال، فلهذا السبب جعل التمسكن كناية عن السؤال والتضرع عند الغير، ويقال : تمسكن الرجل إذا لان وتواضع، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام للمصلي :"تأن وتمسكن" يريد تواضع وتخشع، فدل هذا على أن المسكين هو السائل.
إذا ثبت هذا فنقول : إنه تعالى قال في آية أخرى :﴿وَفِى أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّآاـاِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾ (الذاريات : ١٩) فلما ثبت بما ذكرنا ههنا أن المسكين هو السائل، وجب أن يكون المحروم هو الفقير، ولا شك أن المحروم مبالغة في تقرير أمر الحرمان، فثبت أن الفقير أسوأ حالاً من المسكين.
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ٨٩
الوجه الثامن : أنه عليه الصلاة والسلام قال :"أحيني مسكيناً" الحديث، والظاهر أنه تعالى أجاب دعاءه فأماته مسكيناً، وهو عليه الصلاة والسلام حين توفي كان يملك أشياء كثيرة فدل هذا على أن كونه مسكيناً لا ينافي كونه مالكاً لبعض الأشياء، أما الفقير فإنه يدل على الحاجة الشديدة لقوله عليه الصلاة والسلام :"كاد الفقر أن يكون كفراً" فثبت بهذا أن الفقر أشد حالاً من المسكنة.
الوجه التاسع : أن الناس اتفقوا على أن الفقر والغنى ضدان، كما أن السواد والبياض ضدان ولم يقل أحد إن الغنى والمسكنة ضدان بل قالوا : الترفع والتمسكن ضدان ؛ فمن كان منقاداً لكل أحد خائفاً منهم متحملاً لشرهم ساكتاً عن جوابهم متضرعاً إليهم. قالوا : إن فلاناً يظهر الذل والمسكنة، وقالوا : إنه مسكين عاجز، وأما الفقير فجعلوه عبارة عن ضد الغنى، وعلى هذا فقد يصفون الرجل الغني بكونه مسكيناً، إذا كان يظهر من نفسه الخضوع والطاعة وترك المعارضة، وقد يصفون الرجل الفقير بكونه مترفعاً عن التواضع والمسكنة، فثبت أن الفقر عبارة عن عدم المال والمسكنة عبارة عن إظهار التواضع، والأول ينافي حصول المال، والثاني لا ينافي حصوله.
الوجه العاشر : قوله عليه الصلاة والسلام لمعاذ في الزكاة :"خذها من أغنيائهم، وردها على فقرائهم" ولو كانت الحاجة في المساكين أشد، لوجب أن يقول : وردها على مساكينهم، لأن ذكر الأهم أولى، فهذه الوجوه التي ذكرناها تدل على أن الفقير أسوأ من المسكين، واحتج القائلون بأن المسكين أسوأ حالاً من الفقير بوجوه : الأول : احتجوا بقوله تعالى :﴿أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ﴾ (البلد : ١٦) وصف المسكين بكونه ذا متربة، وذلك يدل على نهاية الضر والشدة، وأيضاً أنه تعالى جعل الكفارات من الأطعمة له، ولا فاقة أعظم من الحاجة إلى إزالة الجوع. الثاني : احتجوا بقول الراعي :
أما الفقير الذي كانت حلوبته
وفق العيال فلم يترك له سيد
سماه فقيراً وله حلوبة. الثالث : قالوا المسكين هو الذي يسكن حيث يحضر لأجل أنه ليس له بيت يسكن فيه وذلك يدل على نهاية الضر والبؤس. الرابع : نقلوا عن الأصمعي وعن أبي عمرو بن العلاء أنهما قالا : الفقير الذي له ما يأكل. والمسكين الذي لا شيء له، وقال يونس : الفقير قد يكون له بعض ما يكفيه والمسكين هو الذي لا شيء له، وقلت لأعرابي أفقير أنت ؟
قال : لا والله بل مسكين.


الصفحة التالية
Icon