بهن فلول من قراع الكتائب
أي ليس فيهم عيب، ثم قال تعالى :﴿فَإِن يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ ﴾ والمراد استعطاف قلوبهم بعد ما صدرت الجناية العظيمة عنهم، وليس في الظاهر إلا أنهم إن تابوا فازوا بالخير، فأما أنهم تابوا فليس في الآية، وقد ذكرنا ما قالوه في توبة الجلاس.
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ١٠٥
ثم قال :﴿وَإِن يَتَوَلَّوْا﴾ أي عن التوبة ﴿يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِى الدُّنْيَا وَالاخِرَةِ ﴾ أما عذاب الآخرة، فمعلوم. وأما العذاب في الدنيا، فقيل : المراد به أنه لما ظهر كفرهم بين الناس صاروا مثل أهل الحرب، فيحل قتالهم وقتلهم وسبي أولادهم وأزواجهم واغتنام أموالهم. وقيل بما ينالهم عند الموت ومعاينة ملائكة العذاب. وقيل : المراد عذاب القبر ﴿وَمَا لَهُمْ فِى الارْضِ مِن وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ﴾ يعني أن عذاب الله إذا حق لم ينفعه ولي ولا نصير.
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ١٠٥
١١٠
اعلم أن هذه السورة أكثرها في شرح أحوال المنافقين ولا شك أنهم أقسام وأصناف، فلهذا السبب يذكرهم على التفصيل فيقول :﴿وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِىَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌا قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ ءَامَنُوا مِنكُم وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ قال ابن عباس رضي الله عنهما : أن حاطب بن أبي بلتعة أبطأ عنه ماله بالشأم، فلحقه شدة، فحلف بالله وهو واقف ببعض مجالس الأنصار، لئن آتانا من فضله لأصدقن ولأؤدين منه حق الله، إلى آخر الآية، والمشهور في سبب نزول هذه الآية أن ثعلبة بن حاطب قال : يارسول الله ادع الله أن يرزقني مالاً. فقال عليه السلام :"يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه" فراجعه وقال : والذي بعثك بالحق لئن رزقني الله مالاً لأعطين كل ذي حق حقه، فدعا له، فاتخذ غنماً، فنمت كما ينمو الدود، حتى ضاقت بها المدينة، فنزل وادياً بها، فجعل يصلي الظهر والعصر ويترك ما سواهما، ثم نمت وكثرت حتى ترك الصلوات إلا الجمعة. وطفق يتلقى الركبان يسأل عن الأخبار، وسأل رسول الله صلى الله عليه وسلّم عنه، فأخبر بخبره فقال :"يا ويح ثعلبة" فنزل قوله :﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً﴾ فبعث إليه رجلين وقال :"مرا بثعلبة فخذا صدقاته" فعند ذلك قال لهما : ما هذه إلا جزية أو أحت الجزية، فلم يدفع الصدقة فأنزل الله تعالى :﴿وَمِنْهُم مَّنْ عَـاهَدَ اللَّهَ﴾ فقيل له : قد أنزل فيك كذا وكذا، فأتي الرسول عليه السلام وسأله أن يقبل صدقته، فقال : إن الله منعني من قبول ذلك فجعل يحثي التراب على رأسه، فقال عليه الصلاة والسلام :"قد قلت لك فما أطعتني" فرجع إلى منزله وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلّم. ثم أتى أبا بكر بصدقته، فلم يقبلها اقتداء بالرسول عليه السلام / ثم لم يقبلها عمر اقتداء بأبي بكر، ثم لم يقبلها عثمان، وهلك ثعلبة في خلافة عثمان.
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ١١٠
فإن قيل : إن الله تعالى أمره بإخراج الصدقة، فكيف يجوز من الرسول عليه السلام أن لا يقبلها منه ؟
قلنا : لا يبعد أن يقال : إنه تعالى منع الرسول عليه السلام عن قبول الصدقة منه على سبيل الإهانة له ليعتبر غيره به، فلا يمتنع عن أداء الصدقات، ولا يبعد أيضاً أنه إنما أتى بتلك الصدقة على وجه الرياء، لا على وجه الإخلاص ؛ وأعلم الله الرسول عليه السلام ذلك فلم يقبل تلك الصدقة، لهذا السبب، ويحتمل أيضاً أنه تعالى لما قال :﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا﴾ وكان هذا المقصود غير حاصل في ثعلبة مع نفاقه، فلهذا السبب امتنع رسول الله عليه السلام من أخذ تلك الصدقة. والله أعلم.
المسألة الثانية : ظاهر الآية يدل على أن بعض المنافقين عاهد الله في أنه لو آتاه مالاً لصرف بعضه إلى مصارف الخيرات، ثم إنه تعالى آتاه المال، وذلك الإنسان ما وفى بذلك العهد، وههنا سؤالات :
السؤال الأول : المنافق كافر، والكافر كيف يمكنه أن يعاهد الله تعالى ؟
والجواب : المنافق قد يكون عارفاً بالله، إلا أنه كان منكراً لنبوة محمد عليه السلام، فلكونه عارفاً بالله يمكنه أن يعاهد الله، ولكونه منكراً لنبوة محمد عليه الصلاة والسلام، كان كافراً. وكيف لا أقول ذلك وأكثر هذا العالم مقرون بوجود الصانع القادر ؟
ويقل في أصناف الكفار من ينكره، والكل معترفون بأنه تعالى هو الذي يفتح على الإنسان أبواب الخيرات، ويعلمون أنه يمكن التقرب إليه بالطاعات وأعمال البر والإحسان إلى الخلق، فهذه أمور متفق عليها بين الأكثرين، وأيضاً فلعله حين عاهد الله تعالى بهذا العهد كان مسلماً، ثم لما بخل بالمال، ولم يف بالعهد صار منافقاً، ولفظ الآية مشعر بما ذكرناه حيث قال :﴿فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا﴾.