أما قوله تعالى :﴿فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ﴾ فاعلم أن المرض صفة توجب وقوع الضرر في الأفعال الصادرة عن موضع تلك الصفة، ولما كان الأثر الخاص بالقلب إنما هو معرفة الله تعالى وطاعته وعبوديته، فإذا وقع في القلب من الصفات ما صار مانعاً من هذه الآثار كانت تلك الصفات أمراضاً للقلب. فإن قيل : الزيادة من جنس المزيد عليه، فلو كان المراد من المرض ههنا الكفر والجهل لكان قوله :﴿فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا ﴾ محمولاً على الكفر والجهل، فيلزم أن يكون الله تعالى فاعلاً للكفر والجهل. قالت المعتزلة : لا يجوز أن يكون مراد الله تعالى منه فعل الكفر والجهل لوجوه : أحدها : أن الكفار كانوا في غاية الحرص على الطعن في القرآن، فلو كان المعنى ذلك لقالوا لمحمد صلى الله عليه وسلّم : إذا فعل الله الكفر فينا، فكيف تأمرنا بالإيمان ؟
وثانيها : أنه تعالى لو كان فاعلاً للكفر لجاز منه إظهار المعجزة على يد الكذاب، فكان لا يبقى كون القرآن حجة فكيف نتشاغل بمعانيه وتفسيره. وثالثها : أنه تعالى ذكر هذه الآيات في معرض الذم لهم على كفرهم فكيف يذمهم على شيء خلقه فيهم. ورابعها : قوله :﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ فإن كان الله تعالى خلق ذلك فيهم كما خلق لونهم وطولهم، فأي ذنب لهم حتى يعذبهم ؟
وخامسها : أنه تعالى أضافه إليهم بقوله :﴿بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾ وعلى هذا وصفهم تعالى بأنهم مفسدون في الأرض، وأنهم هم السفهاء، وأنهم إذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم، إذا ثبت هذا فنقول : لا بدّ من التأويل وهو من وجوه : الأول : يحمل المرض على الغم، لأنه يقال مرض قلبي من أمر كذا، والمعنى أن المنافقين مرضت قلوبهم لما رأوا ثبات أمر النبي صلى الله عليه وسلّم واستعلاء شأنه يوماً فيوماً. وذلك كان يؤثر في زوال رياستهم، كما روي أنه عليه السلام مر بعبد الله بن أبي بن سلول على حمار، فقال له نح حمارك يا محمد فقد آذتني ريحه، فقال له بعض الأنصار اعذره يا رسول الله، فقد كنا عزمنا على أن نتوجه الرياسة قبل أن تقدم علينا : فهؤلاء لما اشتد عليهم الغم وصف الله تعالى ذلك فقال :﴿فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا ﴾ أي زادهم الله غماً على غمهم بما يزيد في إعلاء أمر النبي صلى الله عليه وسلّم وتعظيم شأنه. الثاني : أن مرضهم وكفرهم كان يزداد بسبب ازدياد التكاليف، فهو كقوله تعالى في سورة التوبة :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٣٠٣
﴿فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ﴾ (التوبة : ١٢٥) والسورة لم تفعل ذلك، ولكنهم لما ازدادوا رجساً عند نزولها لما كفروا بها قيل ذلك، وكقوله تعالى حكاية عن نوح ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّى دَعَوْتُ قَوْمِى لَيْلا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَآءِى إِلا فِرَارًا﴾ (نوح : ٥، ٦) والدعاء لم يفعل شيئاً من هذا، ولكنهم ازدادوا فراراً عنده، وقال :﴿وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلا تَفْتِنِّى ﴾ (التوبة : ٤٩) والنبي عليه السلام إن لم يأذن له لم يفتنه، ولكنه كان يفتتن عند خروجه فنسبت الفتنة إليه ﴿وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَـانًا وَكُفْرًا ﴾ (المادة : ٦٤) وقال :﴿فَلَمَّا جَآءَهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلا نُفُورًا﴾ (فاطر : ٤٢) وقولك لمن وعظته فلم يتعظ وتمادى في فساده : ما زادتك موعظتي إلا / شراً، ومازادتك إلا فساداً فكذا هؤلاء المنافقون لما كانوا كافرين ثم دعاهم الله إلى شرائع دينه فكفروا بتلك الشرائع وازدادوا بسبب ذلك كفراً لا جرم أضيفت زيادة كفرهم إلى الله. الثالث : المراد من قوله :﴿فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا ﴾ المنع من زيادة الألطاف، فيكون بسبب ذلك المنع خاذلاً لهم وهو كقوله :﴿قَـاتَلَهُمُ اللَّه أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ (المنافقون : ٤) الرابع : أن العرب تصف فتور الطرف بالمرض، فيقولون : جارية مريضة الطرف. قال جرير :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٣٠٣
فإن العيون التي في طرفها مرض
قتلننا ثم لم يحيين قتلانا