وأما المقام الثاني : وهو بيان حكمة التكرير فهو أن أشد الأشياء جذباً للقلوب وجلباً للخواطر، إلى الاشتغال بالدنيا، هو الاشتغال بالأموال والأولاد، وما كان كذلك يجب التحذير عنه مرة بعد أخرى، إلا أنه لما كان أشد الأشياء في المطلوبية والمرغوبية للرجل المؤمن هو مغفرة الله تعالى، لا جرم أعاد الله قوله :﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِه وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَالِكَ لِمَن يَشَآءُ ﴾ في سورة النساء مرتين، وبالجملة فالتكرير يكون لأجل التأكيد فههنا للمبالغة في التحذير، وفي آية المغفرة للمبالغة في التفريح، وقيل أيضاً إنما كرر هذا المعنى لأنه أراد بالآية الأولى قوماً من المنافقين لهم أموال وأولاد في وقت نزولها/ وأراد بهذه الآية أقواماً آخرين، والكلام الواحد إذا احتيج إلى ذكره مع أقوام كثيرين في أوقات مختلفة، لم يكن ذكره مع بعضهم مغنياً عن ذكره مع الآخرين.
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ١١٨
١١٩
واعلم أنه تعالى بين في الآيات المتقدمة أن المنافقين احتالوا في رخصة التخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم والقعود عن الغزو، وفي هذه الآية زاد دقيقة أخرى، وهي أنه متى نزلت آية مشتملة على الأمر بالإيمان وعلى الأمر بالجهاد مع الرسول، استأذن أولو الثروة والقدرة منهم في التخلف عن الغزو، وقالوا لرسول الله ذرنا نكن مع القاعدين أي مع الضعفاء من الناس والساكنين في البلد.
أما قوله :﴿وَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ ءَامِنُوا بِاللَّهِ وَجَـاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ﴾ ففيه أبحاث :
البحث الأول : يجوز أن يراد بالسورة تمامها وأن يراد بعضها، كما يقع القرآن والكتاب على كله وبعضه، وقيل المراد بالسورة هي سورة براءة، لأن فيها الأمر بالإيمان والجهاد.
البحث الثاني : قوله :﴿وَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ﴾ قال الواحدي : موضع ﴿ءَانٍ﴾ نصب بحذف حرف الجر. والتقدير بأن آمنوا أي بالإيمان ؟
البحث الثالث : لقائل أن يقول : كيف يأمر المؤمنين بالإيمان، فإن ذلك يقتضي الأمر بتحصيل الحاصل وهو محال.
أجابوا عنه : بأن معنى أمر المؤمنين بالإيمان الدوام عليه والتمسك به في المستقبل، وأقول لا حاجة إلى هذا الجواب، فإن الأمر متوجه عليهم، وإنما قدم الأمر بالإيمان على الأمر بالجهاد لأن التقدير كأنه قيل للمنافقين الإقدام على الجهاد قبل الإيمان لا يفيد فائدة أصلاً، فالواجب عليكم أن تؤمنوا أولاً، ثم تشتغلوا بالجهاد ثانياً حتى يفيدكم اشتغالكم بالجهاد فائدة في الدين، ثم حكى تعالى أن عند نزول هذه السورة ماذا يقولون، فقال :﴿اسْتَـاْذَنَكَ أُوْلُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُن مَّعَ الْقَـاعِدِينَ﴾ وفي ﴿أُوْلُوا الطَّوْلِ﴾ قولان : الأول : قال ابن عباس والحسن : المراد أهل السعة في المال : الثاني : قال الأصم : يعني الرؤساء والكبراء المنظور إليهم، وفي تخصيص ﴿أُوْلُوا الطَّوْلِ﴾ بالذكر قولان : الأول : أن الذم لهم ألزم لأجل كونهم قادرين على السفر والجهاد، والثاني : أنه تعالى ذكر أولوا الطول لأن من لا مال له ولا قدرة على السفر لا يحتاج إلى الاستئذان.
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ١١٩
ثم قال تعالى :﴿رَضُوا بِأَن يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ﴾ وذكرنا الكلام المستقصى في الخالف في قوله :/ ﴿فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَـالِفِينَ﴾ وههنا فيه وجهان : الأول : قال الفراء :﴿الْخَوَالِفِ﴾ عبارة عن النساء اللاتي تخلفن في البيت فلا يبرحن، والمعنى : رضوا بأن يكونوا في تخلفهم عن الجهاد كالنساء. الثاني : يجوز أيضاً أن يكون الخوالف جمع خالفة في حال. والخالفة الذي هو غير نجيب. قال الفراء : ولم يأت فاعل صيغة جمعه فواعل، إلا حرفان : فارس وفوارس، وهالك وهوالك، والقول الأول أولى، لأن أدل على القلة والذلة. قال المفسرون : وكان يصعب على المنافقين تشبيههم بالخواف.
ثم قال :﴿وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ﴾ وقد عرفت أن الطبع والختم عبارة عندنا عن حصول الداعية القوية للكفر المانعة من حصول الإيمان، وذلك لأن الفعل بدون الداعي لما كان محالاً، فعند حصول الداعية الراسخة القوية للكفر، صار القلب كالمطبوع على الكفر، ثم حصول تلك الداعية إن كان من العبد لزم التسلسل، وإن كان من الله فالمقصود حاصل. وقال الحسن : الطبع عبارة عن بلوغ القلب في الميل في الكفر إلى الحد الذي كأنه مات عن الإيمان، وعند المعتزلة عبارة عن علامة تحصل في القلب، والاستقصاء فيه مذكور في سورة البقرة في قوله :﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ وقوله :﴿فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ﴾ أي لا يفهمون أسرار حكمة الله في الأمر بالجهاد.
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ١١٩
١٢٠


الصفحة التالية
Icon