واعلم أنه تعالى لما شرح حال المنافقين في الفرار عن الجهاد بين أن حال الرسول والذين آمنوا معه بالضد منه، حيث بذلوا المال والنفس في طلب رضوان الله والتقرب إليه. وقوله :﴿لَـاكِنِ﴾ فيه فائدة، وهي : أن التقدير أنه إن تخلف هؤلاء المنافقون عن الغزو، فقد توجه من هو خير منهم، وأخلص نية واعتقاداً، كقوله :﴿فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَـا ؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا﴾ (الأنعام : ٨٩) وقوله :﴿فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ﴾ (فصلت : ٣٨) ولما وصفهم بالمسارعة إلى الجهاد ذكر ما حصل لهم من الفوائد والمنافع. وهو أنواع : أولها : قوله :﴿وَأُوالَـا ئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ ﴾ واعلم أن لفظ الخيرات، يتناول منافع الدارين، لأجل / أن اللفظ مطلق. وقيل :﴿الْخَيْرَاتُ ﴾ الحور، لقوله تعالى :﴿فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ﴾ (الرحمن : ٧٠) وثانيها : قوله :﴿وَأُوالَـا ئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ فقوله :﴿لَهُمُ الْخَيْرَاتُ ﴾ المراد منه الثواب. وقوله :﴿هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ المراد منه التخلص من العقاب والعذاب. وثالثها : قوله :﴿أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّـاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الانْهَـارُ خَـالِدِينَ فِيهَا ﴾ يحتمل أن تكون هذه الجنات كالتفسير للخيرات وللفلاح، ويحتمل أن تحمل تلك الخيرات والفلاح على منافع الدنيا، مثل الغزو، والكرامة، والثروة، والقدرة، والغلبة، وتحمل الجنات على ثواب الآخرة و﴿الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ عبارة عن كون تلك الحالة مرتبة رفيعة، ودرجة عالية.
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ١٢٠
١٢٠
اعلم أنه تعالى لما شرح أحوال المنافقين الذين كانوا في المدينة ابتدأ في هذه الآية بشرح أحوال المنافقين من الأعراب في قوله :﴿وَجَآءَ الْمُعَذِّرُونَ﴾ وقال : لعن الله المعذرين، وذهب إلى أن المعذر هو المجتهد الذي له عذر، والمعذر بالتشديد الذي يعتذر بلا عدر. والحاصل : أن المعذر هو المجتهد البالغ في العذر، ومنه قولهم : قد أعذر من أنذر، وعلى هذه القراءة فمعنى الآية : أن الله تعالى فصل بين أصحاب العذر وبين الكاذبين، فالمعذرون هم الذين أتوا بالعذر. قيل : هم أسد وغطفان. قالوا : إن لنا عيالاً وإنا بنا جهداً فائذن لنا في التخلف. وقيل : هم رهط عامر بن الطفيل، قالوا : إن غزونا معك أغارت أعراب طيء علينا، فأذن رسول الله لهم. وعن مجاهد : نفر من غطفان اعتذروا. والذين قرؤوا ﴿الْمُعَذِّرُونَ﴾ بالتشديد وهي قراءة العامة فله وجهان من العربية.
الوجه الأول : ما ذكره الفراء والزجاج وابن الأنباري : وهو أن الأصل في هذا اللفظ المعتذرون فحولت فتحة التاء إلى العين، وأبدلت الذال من التاء، وأدغمت في الذال التي بعدها، فصارت التاء ذالاً مشددة. والاعتذار قد يكون بالكذب، كما في قوله تعالى :﴿يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ ﴾ (التوبة : ٩٤) فبين كون هذا الاعتذار فاسداً بقوله :﴿قُل لا تَعْتَذِرُوا ﴾ وقد يكون بالصدق كما في قول لبيد :
ومن يبك حولاً كاملاً فقد اعتذر
يريد فقد جاء بعذر صحيح.
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ١٢٠
الوجه الثاني : أن يكون ﴿الْمُعَذِّرُونَ﴾ على وزن قولنا : مفعلون من التعذير الذي هو التقصير. يقال : عذراً تعذيراً إذا قصر ولم يبالغ. يقال : قام فلان قيام تعذير، إذا اسكتفيته في أمر فقصر فيه، فإن أخذنا بقراءة الخفيف، كان ﴿الْمُعَذِّرُونَ﴾ كاذبين. وأما إن أخذنا بقراءة التشديد، وفسرناها بالمعتذرين، فعلى هذا التقدير : يحتمل أنهم كانوا صادقين وأنهم كانوا كاذبين، ومن المفسرين من قال : المعذرون كانوا صادقين بدليل أنه تعالى لما ذكرهم قال بعدهم :﴿وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَه ﴾ فلما ميزهم عن الكاذبين دل ذلك على أنهم ليسوا بكاذبين. وروى الواحدي بإسناده عن أبي عمرو : أنه لما قيل له هذا الكلام قال : إن أقواماً تكلفوا عذراً بباطل، فهم الذين عناهم الله تعالى بقوله :﴿وَجَآءَ الْمُعَذِّرُونَ﴾ وتخلف الآخرون لا لعذر ولا لشبهة عذر جراءة على الله تعالى، فهم المرادون بقوله :﴿وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَه ﴾ والذي قاله أبو عمرو محتمل، إلا أن الأول أظهر. وقوله :﴿وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَه ﴾ وهم منافقو الأعراب الذين ما جاؤوا وما اعتذروا، وظهر بذلك أنهم كذبوا الله ورسوله في ادعائهم الإيمان. وقرأ أبي ﴿كَذَبُوا ﴾ بالتشديد ﴿سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ في الدنيا بالقتل وفي الآخرة بالنار، وإنما قال :﴿مِّنْهُمْ﴾ لأنه تعالى كان عالماً بأن بعضهم سيؤمن ويتخلص عن هذا العقاب، فذكر لفظة من الدالة على التبعيض.
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ١٢٠
١٢٣