والرواية الثالثة : قال ابن عباس رضي الله عنهما : سألوه أن يحملهم على الدواب فقال عليه السلام :"لا أجد ما أحملكم عليه" لأن الشقة بعيدة. والرجل يحتاج إلى بعيرين، بعير يركبه وبعير يحمل عليه ماءه وزاده. قال صاحب "الكشاف" : قوله :﴿تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا﴾ كقولك : تفيض دمعاً، وهو أبلغ من يفيض دمعها، لأن العين جعلت كأن كلها دمع فائض.
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ١٢٣
١٢٤
وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : أنه تعالى لما قال في الآية الأولى :﴿مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ ﴾ قال في هذه / الآية إنما السبيل على من كان كذا وكذا، ثم الذين قالوا في الآية الأولى المراد ﴿مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ ﴾ في أمر الغزو والجهاد، وأن نفي السبيل في تلك الآية مخصوص بهذا الحكم. قالوا : السبيل الذي نفاه عن المحسنين، هو الذي أثبته في هؤلاء المنافقين، وهو الذي يختص بالجهاد، والمعنى : أن هؤلاء الأغنياء الذين يستأذنونك في التخلف سبيل الله عليهم لازم، وتكليفه عليهم بالذهاب إلى الغزو متوجه، ولا عذر لهم ألبتة في التخلف.
فإن قيل : قوله :﴿رَضُوا ﴾ ما موقعه ؟
قلنا : كأنه استئناف، كأنه قيل : ما بالهم استأذنوا وهم أغنياء. فقيل : رضوا بالدناءة والضعة والانتظام في جملة الخوالف ﴿وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ يعني أن السبب في نفرتهم عن الجهاد، هو أن الله طبع على قلوبهم، فلأجل ذلك الطبع لا يعلمون ما في الجهاد من منافع الدين والدنيا.
ثم قال :﴿يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِم قُل لا تَعْتَذِرُوا لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ﴾ علة للمنع من الاعتذار لأن غرض المعتذر أن يصير عذره مقبولاً. فإذا علم بأن القوم يكذبونه فيه، وجب عليه تركه. وقوله :﴿قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ ﴾ علة لانتفاء التصديق، لأنه تعالى لما أطلع رسوله على ما في ضمائرهم من الخبث والمكر والنفاق، امتنع أن يصدقهم الرسول عليه الصلاة والسلام في تلك الأعذار.
ثم قال :﴿وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُه ﴾ والمعنى أنهم كانوا يظهرون من أنفسهم عند تقرير تلك المعاذير حباً للرسول عليه الصلاة والسلام والمؤمنين وشفقة عليهم ورغبة في نصرتهم، فقال تعالى :﴿وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ﴾ أنكم هل تبقون بعد ذلك على هذه الحالة التي تظهرونها من الصدق والصفاء، أو لا تبقون عليها ؟
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ١٢٤
ثم قال :﴿ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَـالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَـادَةِ﴾.
فإن قيل : لماقال :﴿وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ﴾ فلم لم يقل، ثم تردون إليه، وما الفائدة من قوله :﴿ثُمَّ﴾.
قلنا : في وصفه تعالى بكونه :﴿عَـالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَـادَةِ﴾ ما يدل على كونه مطلعاً على بواطنهم الخبيثة وضمائرهم المملوءة من الكذب والكيد، وفيه تخويف شديد، وزجر عظيم لهم.
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ١٢٤
١٢٤
اعلم أنه تعالى لما حكى عنهم في الآية الأولى أنهم يعتذرون، ذكر في هذه الآية أنهم كانوا يؤكدون تلك الأعذار بالإيمان الكاذبة.
أما قوله :﴿سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ ﴾ فاعلم أن هذا الكلام يدل على أنهم حلفوا بالله، ولم يدل على أنهم على أي شيء حلفوا ؟
فقيل : إنهم حلفوا على أنهم ما قدروا على الخروج، وإنما حلفوا على ذلك لتعرضوا عنهم أي لتصفحوا عنهم، ولتعرضوا عن ذمهم.
ثم قال تعالى :﴿فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ ﴾ قال ابن عباس رضي الله عنهما : يريد ترك الكلام والسلام. قال مقاتل : قال النبي صلى الله عليه وسلّم حين قدم المدينة :"لا تجالسوهم ولا تكلموهم" قال أهل المعاني : هؤلاء طلبوا إعراض الصفح، فأعطوا إعراض المقت، ثم ذكر العلة في وجوب الإعراض عنهم، فقال :﴿إِنَّهُمْ رِجْسٌ ﴾ والمعنى : أن خبث باطنهم رجس روحاني، فكما يجب الاحتراز عن الأرجاس الجسمانية، فوجوب الاحتراز عن الأرجاس الروحانية أولى، خوفاً من سريانها إلى الإنسان، وحذراً من أن يميل طبع الإنسان إلى تلك الأعمال.


الصفحة التالية
Icon