المسألة الثالثة : روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يقرأ ﴿وَالسَّـابِقُونَ الاوَّلُونَ مِنَ الْمُهَـاجِرِينَ وَالانصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَـانٍ﴾ فكان يعطف قوله : على قوله :﴿وَالسَّـابِقُونَ﴾ وكان يحذف الواو من قوله :﴿وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَـانٍ﴾ ويجعله وصفاً للأنصار، وروي أن عمر رضي الله عنه كان يقرأ هذه الآية على هذا الوجه. قال أبي : والله لقد أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلّم / على هذا الوجه، وإنك لتبيع القرظ يومئذ ببقيع المدينة، فقال عمر رضي الله عنه : صدقت، شهدتم وغبنا، وفرغتم وشغلنا، ولئن شئت لتقولن نحن أوينا ونصرنا. وروي أنه جرت هذه المناظرة بين عمر وبين زيد بن ثابت واستشهد زيد بأبي بن كعب، والتفاوت أن على قراءة عمر، يكون التعظيم الحاصل من قوله :﴿وَالسَّـابِقُونَ الاوَّلُونَ﴾ مختصاً بالمهاجرين ولا يشاركهم الأنصار فيها فوجب مزيد التعظيم للمهاجرين. والله أعلم. وروي أن أبيا احتج على صحة القراءة المشهورة بآخر الأنفال وهو قوله :﴿وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مِنا بَعْدُ وَهَاجَرُوا ﴾ (الأنفال : ٧٥) بعد تقدم ذكر المهاجرين والأنصار في الآية الأولى، وبأواسط سورة الحشر وهو قوله :﴿ذُرِّيَّةً مِّنا بَعْدِهِمْ ﴾ (الحشر : ١٠) وبأول سورة الجمعة وهو قوله :﴿وَءَاخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ ﴾ (الجمعة : ٣).
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ١٣٠
المسألة الرابعة : قوله :﴿وَالسَّـابِقُونَ﴾ مرتفع بالابتداء وخبره قوله :﴿رَّضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ﴾ ومعناه : رضي الله عنهم لأعمالهم وكثرة طاعاتهم، ورضوا عنه لما أفاض عليهم من نعمه الجليلة في الدين والدنيا، وفي مصاحف أهل مكة ﴿تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَـارُ ﴾ وهي قراءة ابن كثير، وفي سائر المصاحف ﴿تَحْتَهَا﴾ من غير كلمة ﴿مَنْ﴾.
المسألة الخامسة : قوله :﴿وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَـانٍ﴾ قال عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهم : يريد، يذكرون المهاجرين والأنصار بالجنة والرحمة والدعاء لهم/ ويذكرون محاسنهم، وقال في رواية أخرى والذين اتبعوهم بإحسان على دينهم إلى يوم القيامة، واعلم أن الآية دلت على أن من اتبعهم إنما يستحقون الرضوان والثواب، بشرط كونهم متبعين لهم بإحسان، وفسرنا هذا الإحسان بإحسان القول فيهم، والحكم المشروط بشرط، ينتفي عند انتفاء ذلك الشرط، فوجب أن من لم يحسن القول في المهاجرين والأنصار لا يكون مستحقاً للرضوان من الله تعالى، وأن لا يكون من أهل الثواب لهذا السبب، فإن أهل الدين يبالغون في تعظيم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم ولا يطلقون ألسنتهم في اغتيابهم وذكرهم بما لا ينبغي.
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ١٣٠
١٣١
اعلم أنه تعالى شرح أحوال منافقي المدينة، ثم ذكر بعده أحوال منافقي الأعراب، ثم بين أن في الأعراب من هو مؤمن صالح مخلص، ثم بين أن رؤساء المؤمنين من هم ؟
وهم السابقون المهاجرون والأنصار. فذكر في هذه الآية أن جماعة من حول المدينة موصوفون بالنفاق، وإن كنتم لا تعلمون كونهم كذلك فقال :﴿وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الاعْرَابِ مُنَـافِقُونَ ﴾ وهم جهينة وأسلم وأشجع وغفار، وكانوا نازلين حولها.
وأما قوله :﴿وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِا مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ﴾ ففيه بحثان :
البحث الأول : قال الزجاج : أنه حصل فيه تقديم وتأخير، والتقدير : وممن حولكم من الأعراب ومن أهل المدينة منافقون مردوا على النفاق. الثاني : قال ابن الأنباري : يجوز أن يكون التقدير : ومن أهل المدينة من مردوا على النفاق فأضمر "من" لدلالة ﴿مَنْ﴾ عليها كما في قوله تعالى :﴿وَمَا مِنَّآ إِلا لَه مَقَامٌ مَّعْلُومٌ﴾ (الصافات : ١٦٤) يريد إلا من له مقام معلوم.
البحث الثاني : يقال : مرد يمرد مردوا فهو مارد ومريد إذا عتا، والمريد من شياطين الإنس والجن، وقد تمرد علينا أي عتا، وقال ابن الأعرابي : المراد التطاول بالكبر والمعاصي، ومنه :﴿مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ﴾ وأصل المرود الملاسة، ومنه صرح ممرد، وغلام أمرد، والمرداء الرملة التي لا تنبت شيئاً، كأن من لم يقبل قول غيره ولم يلتفت إليه، بقي كما كان على صفته الأصلية من غير حدوث تغير فيه ألبتة، وذلك هو الملاسة.
إذا عرفت أصل اللفظ فنقول : قوله :﴿مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ﴾ أي ثبتوا واستمروا فيه ولم يتوبوا عنه.
ثم قال تعالى :﴿لا تَعْلَمُهُم نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ ﴾ وهو كقوله :﴿لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ﴾ والمعنى أنهم تمردوا في حرفة النفاق فصاروا فيها أستاذين، وبلغوا إلى حيث لا تعلم أنت نفاقهم مع قوة خاطرك وصفاء حدسك ونفسك.
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ١٣١
ثم قال :﴿سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ﴾ وذكروا في تفسير المرتين وجوهاً كثيرة :


الصفحة التالية
Icon