المسألة السادسة : قوله :﴿وَيَأْخُذُ الصَّدَقَـاتِ﴾ فيه سؤال : وهو أن ظاهر هذه الآية يدل على أن الآخذ هو الله وقوله :﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً﴾ يدل على أن الآخذ هو الرسول عليه الصلاة والسلام وقوله عليه السلام لمعاذ :"خذها من أغنيائهم" يدل على أن آخذ تلك الصدقات هو معاذ وإذا دفعت الصدقة إلى الفقير فالحس يشهد أن آخذها هو الفقير فكيف الجمع بين هذه الألفاظ ؟
والجواب من وجهين : الأول : أنه تعالى لما بين في قوله :﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً﴾ أن الآخذ هو الرسول، ثم ذكر في هذه الآية أن الآخذ هو الله تعالى، كان المقصود منه أن أخذ الرسول قائم مقام أخذ الله تعالى، والمقصود منه التنبيه على تعظيم شأن الرسول من حيث إن أخذه للصدقة جار مجرى أن يأخذها الله، ونظيره قوله تعالى :﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ﴾ (الفتح : ١٠) وقوله :﴿إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ﴾ (الأحزاب : ٥٧) والمراد منه إيذاء النبي عليه السلام.
والجواب الثاني : أنه أضيف إلى الرسول عليه السلام بمعنى أنه يأمر بأخذها ويبلغ حكم الله في هذه الواقعة إلى الناس، وأضيف إلى الفقير بمعنى أنه هو الذي يباشر الأخذ، ونظيره أنه تعالى أضاف التوفي إلى نفسه بقوله تعالى :﴿وَهُوَ الَّذِى يَتَوَفَّـاـاكُم﴾ (الأنعام : ٦٠) وأضافه إلى ملك الموت، وهو قوله تعالى :﴿قُلْ يَتَوَفَّـاـاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ﴾ (السجدة : ١١) وأضافه إلى الملائكة الذين هم أتباع ملك الموت، وهو قوله :﴿حَتَّى ا إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا﴾ (الأنعام : ٦١) فأضيف إلى الله بالخلق وإلى ملك الموت للرياسة في ذلك النوع من العمل، وإلى أتباع ملك الموت، يعني أنهم هم الذين يباشرون الأعمال التي عندها يخلق الله الموت، فكذا ههنا.
إذا عرفت هذا فنقول : قوله :﴿وَيَأْخُذُ الصَّدَقَـاتِ﴾ تشريف عظيم لهذه الطاعة، والأخبار فيه كثيرة عن النبي عليه السلام أنه قال :"إن الله يقبل الصدقة ولا يقبل منها إلا طيباً وأنه يقبلها بيمينه ويربيها لصاحبها كما يربى أحدكم مهره أو فصيله حتى أن اللقمة تكون عند الله أعظم من أحد" وقال عليه السلام :"والذي نفس محمد بيده ما من عبد مسلم يتصدق بصدقة فتصل إلى الذي يتصدق بها عليه حتى تقع في كف الله، ولما روى الحسن هذين الخبرين قال : ويمين الله وكفه وقبضته لا توصف ﴿لَيْسَ كَمِثْلِه شَىْءٌ ﴾ (الشورى : ١١) واعلم أن لفظ اليمين والكف من التقديس.
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ١٤١
١٤٤
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن هذا الكلام جامع للترغيب والترهيب، وذلك لأن المعبود إذا كان لا يعلم أفعال العباد لم ينتفع العبد بفعله، ولهذا قال إبراهيم عليه السلام لأبيه :﴿لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِى عَنكَ شَيْـاًا﴾ (مريم : ٤٢) وقلت في بعض المجالس ليس المقصود من هذه الحجة التي ذكرها إبراهيم عليه السلام القدح في إلهية الصنم، لأن كل أحد يعلم بالضرورة أنه حجر وخشب وأنه معرض لتصرف المتصرفين، فمن شاء أحرقه، ومن شاء كسره، ومن كان كذلك كيف يتوهم العاقل كونه إلهاً ؟
بل المقصود أن أكثر عبدة الأصنام كانوا في زمان إبراهيم عليه السلام أتباع الفلاسفة القائلين بأن إله العالم موجب بالذات، وليس بموجد بالمشيئة والاختيار، فقال : الموجب بالذات إذا لم يكن عالماً بالخيرات ولم يكن قادراً على الإنفاع والإضرار، ولا يسمع دعاء المحتاجين ولا يرى تضرع المساكين، فأي فائدة في عبادته ؟
فكان المقصود من دليل إبراهيم عليه السلام الطعن في قول من يقول : إله العالم موجب بالذات. أما إذا كان فاعلاً مختاراً وكان عالماً بالجزئيات فحينئذ يحصل للعباد الفوائد العظيمة، وذلك لأن العبد إذا أطاع علم المعبود طاعته وقدر على إيصال الثواب إليه في الدنيا والآخرة، وإن عصاه علم المعبود ذلك، وقدر على إيصال العقاب إليه في الدنيا والآخرة، فقوله :﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ﴾ ترغيب عظيم للمطيعين، وترهيب عظيم / للمذنبين، فكأنه تعالى قال : اجتهدوا في المستقبل، فإن لعملكم في الدنيا حكماً وفي الآخرة حكماً. أما حكمه في الدنيا فهو أنه يراه الله ويراه الرسول ويراه المسلمون، فإن كان طاعة حصل منه الثناء العظيم والثواب العظيم في الدنيا والآخرة، وإن كان معصية حصل منه الذم العظيم في الدنيا والعقاب الشديد في الآخرة. فثبت أن هذه اللفظة الواحدة جامعة لجميع ما يحتاج المرء إليه في دينه ودنياه ومعاشه ومعاده.
المسألة الثانية : دلت الآية على مسائل أصولية.
الحكم الأول