إنها تدل على كونه تعالى رائياً للمرئيات، لأن الرؤية المعداة إلى مفعول واحد، هي الإبصار، والمعداة إلى مفعولين هي العلم، كما تقول رأيت زيداً فقيهاً، وههنا الرؤية معداة إلى مفعول واحد فتكون بمعنى الإبصار، وذلك يدل على كونه مبصراً للأشياء كما أن قول إبراهيم عليه السلام :﴿لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ﴾ (مريم : ٤٢) يدل على كونه تعالى مبصراً ورائياً للأشياء، ومما يقوي أن الرؤية لا يمكن حملها ههنا على العلم أنه تعالى وصف نفسه بالعلم بعد هذه الآية فقال :﴿وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَـالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَـادَةِ﴾ ولو كانت هذه الرؤية هي العلم لزم حصول التكرير الخالي عن الفائدة وهو باطل.
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ١٤٤
الحكم الثاني
مذهب أصحابنا أن كل موجود فإنه يصح رؤيته، واحتجوا عليه بهذه الآية وقالوا : قد دللنا على بأن الرؤية المذكورة في هذه الآية معداة إلى مفعول واحد، والقوانين اللغوية شاهدة أن الرؤية المعداة إلى المفعول الواحد معناها الإبصار. فكانت هذه الرؤية معناها الإبصار. ثم إنه تعالى عدى هذه الرؤية إلى عملهم والعمل ينقسم إلى أعمال القلوب، كالإرادات والكراهات والأنظار. وإلى أعمال الجوارح، كالحركات والسكنات. فوجب كونه تعالى رائياً للكل وذلك يدل على أن هذه الأشياء كلها مرئية لله تعالى/ وأما الجبائي فإنه كان يحتج بهذه الآية على كونه تعالى رائياً للحركات والسكنات والاجتماعات والافتراقات، فلما قيل له : إن صح هذا الاستدلال، فيلزمك كونه تعالى رائياً لأعمال القلوب، فأجاب عنه أنه تعالى عطف عليه قوله :﴿وَرَسُولُه وَالْمُؤْمِنُونَ ﴾ وهم إنما يرون أفعال الجوارح، فلما تقيدت هذه الرؤية بأعمال الجوارح في حق المعطوف وجب تقييدها بهذا القيد في حق المعطوف عليه، وهذا بعيد لأن العطف لا يفيد إلا أصل التشريك. فأما التسوية في كل الأمور فغير واجب، فدخول التخصيص في المعطوف، لا يوجب دخول التخصيص في المعطوف عليه، ويمكن / الجواب عن أصل الاستدلال فيقال : رؤية الله تعالى حاصلة في الحال. والمعنى الذي يدل عليه لفظ الآية وهو قوله :﴿فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ﴾ أمر غير حاصل في الحال، لأن السين تختص بالاستقبال. فثبت أن المراد منه الجزاء على الأعمال. فقوله :﴿فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ﴾ أي فسيوصل لكم جزاء أعمالكم. ولمجيب أن يجيب عنه، بأن إيصال الجزاء إليهم مذكور بقوله :﴿فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ فلو حملنا هذه الرؤية على إيصال الجزاء لزم التكرار، وأنه غير جائز.
المسألة الثالثة : في قوله :﴿فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُه وَالْمُؤْمِنُونَ ﴾ سؤال : وهو أن عملهم لا يراه كل أحد، فما معنى هذا الكلام ؟
والجواب : معناه وصول خبر ذلك العمل إلى الكل. قال عليه السلام "لو أن رجلاً عمل عملاً في صخرة لا باب لها ولا كوة لخرج عمله إلى الناس كائناً ما كان".
فإن قيل : فما الفائدة في ذكر الرسول والمؤمنين بعد ذكر الله في أنهم يرون أعمال هؤلاء التائبين ؟
قلنا : فيه وجهان :
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ١٤٤
الوجه الأول : أن أجدر ما يدعو المرء إلى العمل الصالح ما يحصل له من المدح والتعظيم والعز الذي يلحقه عند ذلك، فإذا علم أنه إذا فعل ذلك الفعل عظمه الرسول والمؤمنون، عظم فرحه بذلك وقويت رغبته فيه، ومما ينبه على هذه الدقيقة أنه ذكر رؤية الله تعالى أولاً، ثم ذكر عقيبها رؤية الرسول عليه السلام والمؤمنين، فكأنه قيل : إن كنت من المحقين المحققين في عبودية الحق، فاعمل الأعمال الصالحة لله تعالى، وإن كنت من الضعفاء المشغولين بثناء الخلق فاعمل الأعمال الصالحة لتفوز بثناء الخلق، وهو الرسول والمؤمنون.
الوجه الثاني : في الجواب ما ذكره أبو مسلم : أن المؤمنين شهداء الله يوم القيامة كما قال :﴿وَكَذَالِكَ جَعَلْنَـاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ (البقرة : ١٤٣) الآية، والرسول شهيد الأمة، كما قال :﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةا بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـا ؤُلاءِ شَهِيدًا﴾ (النساء : ٤١) فثبت أن الرسول والمؤمنين شهداء الله يوم القيامة، والشهادة لا تصح إلا بعد الرؤية، فذكر الله أن الرسول عليه السلام والمؤمنين يرون أعمالهم، والمقصود التنبيه على أنهم يشهدون يوم القيامة عند حضور الأولين والآخرين، بأنهم أهل الصدق والسداد والعفاف والرشاد.
ثم قال تعالى :﴿وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَـالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَـادَةِ﴾ وفيه مسائل :


الصفحة التالية
Icon