البحث الأول : قرأ ابن عامر وحمزة وأبو بكر عن عاصم ﴿جُرُفٍ﴾ ساكنة الراء والباقون بضم الراء وهما لغتان، جرف وجرف كشغل وشغل وعنق وعنق.
البحث الثاني : قال أبو عبيدة : الشفا الشفير، وشفا الشيء حرفه، ومنه يقال أشفى على كذا إذا دنا منه، والجرف هو ما إذا سال السيل وانحرف الوادي ويبقى على طرف السيل طين واه مشرف على السقوط ساعة فساعة. فذلك الشيء هو الجرف، وقوله :﴿هَارٍ﴾ قال الليث : الهور مصدر هار الجرف يهور، إذا انصدع من خلفه، وهو ثابت بعد في مكانه، وهو جرف هار هائر، فإذا سقط فقد انهار وتهور.
إذا عرفت هذه الألفاظ فنقول : المعنى أفمن أسس بنيان دينه على قاعدة قوية محكمة وهي الحق الذي هو تقوى الله ورضوانه خير، أمن أسس على قاعدة هي أضعف القواعد وأقلها بقاء، وهو الباطل ؟
والنفاق الذي مثله مثل شفا جرف هار من أودية جهنم فلكونه ﴿شَفَا جُرُفٍ هَارٍ﴾ كان مشرفاً على السقوط، ولكونه على طرف جهنم، كان إذا انهار فإنما ينهار في قعر جهنم، ولا نرى في العالم مثالاً أكثر مطابقة لأمر المنافقين من هذا المثال وحاصل الكلام أن أحد البناءين قصد بانيه ببنائه تقوى الله ورضوانه، والبناء الثاني قصد بانيه ببنائه المعصية والكفر، فكان البناء الأول شريفاً واجب الإبقاء، وكان الثاني خسيساً واجب الهدم.
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ١٥٠
ثم قال تعالى :﴿لا يَزَالُ بُنْيَـانُهُمُ الَّذِى بَنَوْا رِيبَةً فِى قُلُوبِهِمْ﴾ والمعنى : أن بناء ذلك البنيان صار سبباً لحصول الريبة في قلوبهم، فجعل نفس ذلك البنيان ريبة لكونه سبباً للريبة. وفي كونه سبباً للريبة وجوه : الأول : أن المنافقين عظم فرحهم ببناء مسجد الضرار، فلما أمر الرسول صلى الله عليه وسلّم بتخريبه ثقل ذلك عليهم وازداد بغضهم له وازداد ارتيابهم في نبوته. الثاني : أن الرسول عليه الصلاة والسلام لما أمر بتخريب ذلك المسجد ظنوا أنه إنما أمر بتخريبه لأجل الحسد، فارتفع أمانهم عنه وعظم خوفهم منه في كل الأوقات، وصاروا مرتابين في أنه هل يتركهم على ما هم فيه / أو يأمر بقتلهم ونهب أموالهم ؟
الثالث : أنهم اعتقدوا أنهم كانوا محسنين في بناء ذلك المسجد، فلما أمر الرسول عليه الصلاة والسلام بتخريبه بقوا شاكين مرتابين في أنه لأي سبب أمر بتخريبه ؟
الرابع : بقوا شاكين مرتابين في أن الله تعالى هل يغفر تلك المعصية ؟
أعني سعيهم في بناء ذلك المسجد، والصحيح هو الوجه الأول.
ثم قال :﴿إِلا أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ ﴾ وفيه مباحث :
البحث الأول : قرأ ابن عامر وحفص عن عاصم وحمزة ﴿أَن تَقَطَّعَ﴾ بفتح التاء والطاء مشددة بمعنى تتقطع، فحذفت إحدى التاءين، والباقون بضم التاء وتشديد الطاء على ما لم يسم فاعله، وعن ابن كثير ﴿تَقَطَّعَ﴾ بفتح الطاء وتسكين القاف ﴿قُلُوبِهِمْ﴾ بالنصب أي تفعل أنت بقلوبهم هذا القطع، وقوله :﴿تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ ﴾ أي تجعل قلوبهم قطعاً، وتفرق أجزاء إما بالسيف وإما بالحزن والبكاء، فحينئذ تزول تلك الريبة. والمقصود أن هذه الريبة باقية في قلوبهم أبداً ويموتون على هذا النفاق. وقيل : معناه إلا أن يتوبوا توبة تنقطع بها قلوبهم ندماً وأسفاً على تفريطهم. وقيل حتى تنشق قلوبهم غماً وحسرة، وقرأ الحسن ﴿إِلَى ا أَن﴾ وفي قراءة عبد الله ﴿أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ ﴾ وعن طلحة ﴿أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ ﴾ على خطاب الرسول صلى الله عليه وسلّم أو كل مخاطب.
ثم قال :﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ والمعنى : عليم بأحوالهم، حكيم في الأحكام التي يحكم بها عليهم.
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ١٥٠
١٥٢
اعلم أنه تعالى لما شرع في شرح فضائح المنافقين وقبائحهم لسبب تخلفهم عن غزوة تبوك، فلما / تمم ذلك الشرح والبيان وذكر أقسامهم، وفرع على كل قسم ما كان لائقاً به، عاد إلى بيان فضيلة الجهاد وحقيقته فقال :﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ﴾ وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قال القرطبي : لما بايعت الأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلّم ليلة العقبة بمكة وهم سبعون نفساً، قال عبد الله بن رواحة : اشترط لربك ولنفسك ما شئت. فقال :"أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، ولنفسي أن تمنعوني ما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم" قالوا : فإذا فعلنا ذلك فماذا لنا ؟
قال :"الجنة" قالوا : ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل. فنزلت هذه الآية. قال مجاهد والحسن ومقاتل : ثامنهم فأغلى ثمنهم.


الصفحة التالية
Icon