المسألة الثانية : قال أهل المعاني : لا يجوز أن يشتري الله شيئاً في الحقيقة لأن المشتري إنما يشتري ما لا يملك، ولهذا قال الحسن : اشترى أنفساً هو خلقها، وأموالاً هو رزقها، لكن هذا ذكره تعالى لحسن التلطف في الدعاء إلى الطاعة، وحقيقة هذا، أن المؤمن متى قاتل في سبيل الله حتى يقتل، فتذهب روحه، وينفق ماله في سبيل الله، أخذ من الله في الآخرة الجنة جزاء لما فعل. فجعل هذا استبدالاً وشراء. هذا معنى قوله :﴿اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ﴾ أي بالجنة، وكذا قراءة عمر بن الخطاب والأعمش. قال الحسن : اسمعوا والله بيعة رابحة وكفة راجحة، بايع الله بها كل مؤمن، والله ما على الأرض مؤمن إلا وقد دخل في هذه البيعة. وقال الصادق عليه الصلاة والسلام :"ليس لأبدانكم ثمن إلا الجنة فلا تبيعوها إلا بها" وقوله :﴿وَأَمْوَالَهُم﴾ يريد التي ينفقونها في سبيل الله وعلى أنفسهم وأهليهم وعيالهم، وفي الآية لطائف :
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ١٥٢
اللطيفة الأولى المشتري لا بد له من بائع، وههنا البائع هو الله والمشتري هو الله، وهذا إنما يصح في حق القيم بأمر الطفل الذي لا يمكنه رعاية المصالح في البيع والشراء، وصحة هذا البيع مشروطة برعاية الغبطة العظيمة، فهذا المثل جار مجرى التنبيه على كون العبد شبيهاً بالطفل الذي لا يهتدي إلى رعاية مصالح نفسه، وأنه تعالى هو المراعي لمصالحه بشرط الغبطة التامة، والمقصود منه التنبيه على السهولة والمسامحة، والعفو عن الذنوب، والإيصال إلى درجات الخيرات ومراتب السعادات.
واللطيفة الثانية : أنه تعالى أضاف الأنفس والأموال إليهم فوجب أن كون الأنفس والأموال مضافة إليهم يوجب أمرين مغايرين لهم، والأمر في نفسه كذلك، لأن الأنسان عبارة عن الجوهر الأصلي الباقي، وهذا البدن يجري مجرى الآلة والأدوات والمركب، وكذلك المال خلق وسيلة إلى رعاية مصالح هذا المركب، فالحق سبحانه اشترى من الإنسان هذا المركب وهذا المال / بالجنة، وهو التحقيق. لأن الإنسان ما دام يبقى متعلق القلب بمصالح عالم الجسم المتغير المتبدل، وهو البدن والمال، امتنع وصوله إلى السعادات العالية والدرجات الشريفة، فإذا انقطع التفاته إليها وبلغ ذلك الانقطاع إلى أن عرض البدن للقتل/ والمال للإنفاق في طلب رضوان الله، فقد بلغ إلى حيث رجح الهدى على الهوى، والمولى على الدنيا، والآخرة على الأولى، فعند هذا يكون من السعداء الأبرار والأفاضل الأخيار، فالبائع هو جوهر الروح القدسية والمشتري هو الله، وأحد العوضين الجسد البالي والمال الفاني، والعوض الثاني الجنة الباقية والسعادات الدائمة، فالربح حاصل والهم والغم زائل، ولهذا قال :﴿فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِى بَايَعْتُم بِه ﴾.
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ١٥٢


الصفحة التالية
Icon