ثم قال :﴿يُقَـاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ﴾ قال صاحب "الكشاف" : قوله :﴿يُقَـاتِلُونَ﴾ فيه معنى الأمر كقوله :﴿وَتُجَـاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ﴾ وقيل جعل ﴿يُقَـاتِلُونَ﴾ كالتفسير لتلك المبايعة، وكالأمر اللازم لها. قرأ حمزة والكسائي بتقديم المفعول على الفاعل وهو كونهم مقتولين على كونهم قاتلين، والباقون بتقديم الفاعل على المفعول. أما تقديم الفاعل على المفعول فظاهر، لأن المعنى أنهم يقتلون الكفار ولا يرجعون عنهم إلى أن يصيروا مقتولين. وأما تقديم المفعول على الفاعل، فالمعنى : أن طائفة كبيرة من المسلمين، وإن صاروا مقتولين لم يصر ذلك رادعاً للباقين عن المقاتلة، بل يبقون بعد ذلك مقاتلين مع الأعداء. قاتلين لهم بقدر الإمكان، وهو كقوله :﴿فَمَا وَهَنُوا لِمَآ أَصَابَهُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ﴾ (آل عمران : ١٤٦) أي ما وهن من بقي منهم. واختلفوا في أنه هل دخل تحت هذه الآية مجاهدة الأعداء بالحجة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أم لا ؟
فمنهم من قال : هو مختص بالجهاد بالمقاتلة، لأنه تعالى فسر تلك المبايعة بالمقاتلة بقوله :﴿يُقَـاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ﴾ ومنهم من قال : كل أنواع الجهاد داخل فيه، بدليل الخبر الذي رويناه عن عبد الله بن رواحة. وأيضاً فالجهاد بالحجة والدعوة إلى دلائل التوحيد أكمل آثاراً من القتال، ولذلك قال صلى الله عليه وسلّم لعلي رضي الله عنه :"لأن يهدي الله على يدك رجلاً خير لك مما طلعت عليه الشمس" ولأن الجهاد بالمقاتلة لا يحسن أثرها إلا بعد تقديم الجهاد بالحجة. وأما الجهاد بالحجة فإنه غني عن الجهاد بالمقاتلة. والأنفس جوهرها جوهر شريف خصه الله تعالى بمزيد الإكرام في هذا العالم، ولا فساد في ذاته، إنما الفساد في الصفة القائمة به، وهي الكفر والجهل. ومتى أمكن إزالة الصفة الفاسدة، مع إبقاء الذات والجوهر كان أولى. ألا ترى أن جلد الميتة لما كان منتفعاً به من بعض الوجوه، لا جرم حث الشرع على إبقائه، فقال :"هلا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به" فالجهاد بالحجة يجري مجرى الدباغة، وهو إبقاء الذات مع إزالة الصفة الفاسدة، والجهاد بالمقاتلة يجري مجرى إفناء الذات، فكان المقام الأول أولى وأفضل.
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ١٥٢
ثم قال تعالى :﴿وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاـاةِ وَالانجِيلِ وَالْقُرْءَانِ ﴾ قال الزجاج : نصب ﴿وَعْدًا﴾ على المعنى، لأن معنى قوله :﴿بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ﴾ أنه وعدهم الجنة، فكان وعداً مصدراً مؤكداً. واختلفوا في أن هذا الذي حصل في الكتب ما هو ؟
فالقول الأول : أن هذا الوعد الذي وعده للمجاهدين في سبيل الله وعد ثابت، فقد أثبته الله في التوراة والإنجيل كما أثبته في القرآن.
والقول الثاني : المراد أن الله تعالى بين في التوراة والإنجيل أنه اشترى من أمة محمد عليه الصلاة والسلام أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، كما بين في القرآن.
والقول الثالث : أن الأمر بالقتال والجهاد هو موجود في جميع الشرائع.
ثم قال تعالى :﴿وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِه مِنَ اللَّه ﴾ والمعنى : أن نقض العهد كذب. وأيضاً أنه مكر وخديعة، وكل ذلك من القبائح، وهي قبيحة من الإنسان مع احتياجه إليها، فالغني عن كل الحاجات أولى أن يكون منزهاً عنها. وقوله :﴿وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِه ﴾ استفهام بمعنى الإنكار، أي لا أحد أوفى بما وعد من الله.


الصفحة التالية
Icon