ثم قال :﴿فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِى بَايَعْتُم بِه ا وَذَالِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ واعلم أن هذه الآية مشتملة على أنواع من التأكيدات : فأولها : قوله :﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم﴾ فيكون المشتري هو الله المقدس عن الكذب والخيانة، وذلك من أدل الدلائل على تأكيد هذا العهد. والثاني : أنه عبر عن إيصال هذا الثواب بالبيع والشراء، وذلك حق مؤكد. وثالثها : قوله :﴿وَعْدًا﴾ ووعد الله حق. ورابعها : قوله :﴿عَلَيْهِ﴾ وكلمة "على" للوجوب. وخامسها : قوله :﴿حَقًّا﴾ وهو التأكيد للتحقيق. وسادسها : قوله :﴿فِي التَّوْرَاـاةِ وَالانجِيلِ وَالْقُرْءَانِ ﴾ وذلك يجري مجرى إشهاد جميع الكتب الإلهية وجميع الأنبياء والرسل على هذه المبايعة. وسابعها : قوله :﴿وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِه مِنَ اللَّه ﴾ وهو غاية في التأكيد. وثامنها : قوله :﴿فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِى بَايَعْتُم بِه ﴾ وهو أيضاً مبالغة في التأكيد. وتاسعها : قوله :﴿وَذَالِكَ هُوَ الْفَوْزُ﴾ وعاشرها : قوله :﴿الْعَظِيمُ﴾ فثبت اشتمال هذه الآية على هذه الوجوه العشرة في التأكيد والتقرير والتحقيق. ونختم الآية بخاتمة وهي أن أبا القاسم البلخي استدل بهذه الآية على أنه لا بد من حصول الأعواض عن آلام الأطفال والبهائم. قال لأن الآية دلت على أنه لا يجوز إيصال ألم القتل وأخذ الأموال إلى البالغين إلا بثمن هو الجنة، فلا جرم قال :﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ﴾ فوجب أن يكون الحال كذلك في الأطفال والبهائم، ولو جاز عليهم التمني لتمنوا أن آلامهم تتضاعف حتى تحصل لهم تلك / الأعواض الرفيعة الشريفة، ونحن نقول : لا ننكر حصول الخيرات للأطفال والحيوانات في مقابلة هذه الآلام، وإنما الخلاف وقع في أن ذلك العوض عندنا غير واجب، وعندكم واجب، والآية ساكتة عن بيان الوجوب.
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ١٥٢
١٥٧
اعلم أنه تعالى لما ذكر في الآية الأولى أنه ﴿اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ﴾ بين في هذه الآية أن أولئك المؤمنين هم الموصوفون بهذه الصفات التسعة. وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : في رفع قوله :﴿التَّـا ئِبُونَ الْعَـابِدُونَ الْحَـامِدُونَ السَّـا اـاِحُونَ﴾ وجوه : الأول : أنه رفع على المدح، والتقدير : هم التائبون، يعني المؤمنين المذكورين في قوله :﴿اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ﴾ هم التائبون. الثاني : قال الزجاج : لا يبعد أن يكون قوله :﴿التَّـا ئِبُونَ﴾ مبتدأ، وخبره محذوف أي التائبون العابدون من أهل الجنة أيضاً، وإن لم يجاهدوا كقوله تعالى :﴿وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى ﴾ وهذا وجه حسن. لأن على هذا التقدير يكون الوعد بالجنة حاصلاً لجميع المؤمنين، وإذا جعلنا قوله :﴿التَّـا ئِبُونَ﴾ تابعاً لأول الكلام كان الوعد بالجنة حاصلاً للمجاهدين. الثالث :﴿التَّـا ئِبُونَ﴾ مبتدأ أو رفع على البدل من الضمير في قوله :﴿يُقَـاتِلُونَ﴾ الرابع : قوله :﴿التَّـا ئِبُونَ﴾ مبتدأ، وقوله :﴿الْعَـابِدُونَ﴾ إلى آخر الآية خبر بعد خبر، أي التائبون من الكفر على الحقيقة هم الجامعون لهذه الخصال. وقرأ أبي وعبد الله بالياء إلى قوله :﴿وَالصَّـا ئِمَـاتِ وَالْحَـافِظِينَ﴾ وفيه وجهان : أحدهما : أن يكون ذلك نصباً على المدح. الثاني : أن يكون جراً، صفة للمؤمنين.
المسألة الثانية : في تفسير هذه الصفات التسعة.
فالصفة الأولى : قوله :﴿التَّـا ئِبُونَ﴾ قال ابن عباس رضي الله عنه : التائبون من الشرك. وقال الحسن : التائبون من الشرك والنفاق. وقال الأصوليون : التائبون من كل معصية، وهذا أولى، لأن التوبة قد تكون توبة من الكفر، وقد تكون من المعصية. وقوله :﴿التَّـا ئِبُونَ﴾ صيغة عموم محلاة بالألف واللام، فتتناول الكل فالتخصيص بالتوبة عن الكفر محض التحكم.
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ١٥٧
واعلم أنا بالغنا في شرح حقيقة التوبة في تفسير قوله تعالى في سورة البقرة :﴿فَتَلَقَّى ا ءَادَمُ مِن رَّبِّه كَلِمَـاتٍ فَتَابَ عَلَيْه ﴾ (البقرة : ٣٧).
واعلم أن التوبة إنما تحصل عند حصول أمور أربعة : أولها : احتراق القلب في الحال على صدور تلك المعصية عنه، وثانيها : ندمه على ما مضى، وثالثها : عزمه على الترك في المستقبل، ورابعها : أن يكون الحامل له على هذه الأمور الثلاثة طلب رضوان الله تعالى وعبوديته، فإن كان غرضه منها دفع مذمة الناس وتحصيل مدحهم أو سائر الأغراض، فهو ليس من التائبين.


الصفحة التالية
Icon