المسألة الثالثة : القائل :﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ءَامِنُوا ﴾ إما الرسول، أو المؤمنون، ثم كان بعضهم يقول لبعض : أنؤمن كما آمن سفيه بني فلان وسفيه بني فلان، والرسول لا يعرف ذلك فقال تعالى :﴿أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَآءُ﴾.
المسألة الرابعة : السفه الخفة يقال : سفهت الريح الشيء إذا حركته، قال ذو الرمة :
فجرين كما اهتزت رياح تسفهت
أعاليها مر الرياح الرواسم
وقال أبو تمام الطائي :
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣٠٧
فسفيه الرمح جاهله إذا ما
بدا فضل السفيه على الحليم
أراد به سريع الطعن بالرمح خفيفه، وإنما قيل لبذيء اللسان سفيه ؛ لأنه خفيف لا رزانة له وقال تعالى :﴿وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَآءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِى جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَـامًا﴾ (النساء : ٥) وقال عليه السلام :"شارب الخمر سفيه" لقلة عقله وإنما سمي المنافقون المسلمين بالسفهاء ؛ لأن المنافقين كانوا من أهل الخطر والرياسة، وأكثر المؤمنين كانوا فقراء، وكان عند المنافقين أن دين محمد صلى الله عليه وسلّم باطل، والباطل لا يقبله إلا السفيه ؛ فلهذه الأسباب نسبوهم إلى السفاهة ثم إن الله تعالى قلب عليهم هذا اللقب ـ وقوله الحق ـ لوجوه : أحدها : أن من أعرض عن الدليل ثم نسب المتمسك به إلى السفاهة فهو السفيه. وثانيها : أن من باع آخرته بدنياه فهو السفيه. وثالثها : أن من عادى محمداً عليه الصلاة والسلام فقد عادى الله، وذلك هو السفيه.
المسألة الخامسة : إنما قال في آخر هذه الآية :﴿لا يَعْلَمُونَ﴾ وفيما قبلها :﴿لا يَشْعُرُونَ﴾ لوجهين : الأول : أن الوقوف على أن المؤمنين على الحق وهم على الباطل أمر عقلي نظري/ وأما أن النفاق وما فيه من البغي يفضي إلى الفساد في الأرض فضروري جار مجرى المحسوس. الثاني : أنه ذكر السفه وهو جهل، فكان ذكر العلم أحسن طباقاً له والله أعلم.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣٠٧
٣٠٨
هذا هو النوع الرابع من أفعالهم القبيحة، يقال : لقيته ولاقيته إذا استقبلته قريباً منه، وقرأ أبو حنيفة :"وإذا لاقوا" أما قوله :﴿قَالُوا ءَامَنَّا﴾ فالمراد أخلصنا بالقلب، والدليل عليه وجهان :/ الأول : أن الإقرار باللسان كان معلوماً منهم فما كانوا يحتاجون إلى بيانه، إنما المشكوك فيه هو الإخلاص بالقلب، فيجب أن يكون مرادهم من هذا الكلام ذلك. الثاني : أن قولهم للمؤمنين "آمنا" يجب أن يحمل على نقيض ما كانوا يظهرونه لشياطينهم، وإذا كانوا يظهرون لهم التكذيب بالقلب فيجب أن يكون مرادهم فيما ذكروه للمؤمنين التصديق بالقلب، أما قوله :﴿وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَـاطِينِهِمْ﴾ فقال صاحب "الكشاف" : يقال خلوت بفلان وإليه، وإذا انفردت معه ويجوز أن يكون من "خلا" بمعنى مضى، ومنه القرون الخالية، ومن "خلوت به" إذا سخرت منه، من قولك :"خلا فلان بعرض فلان" أي : يعبث به، ومعناه أنهم أنهوا السخرية بالمؤمنين إلى شياطينهم وحدثوهم بها كما تقول : أحمد إليك فلاناً وأذمه إليك. وأما شياطينهم فهم الذين ماثلوا الشياطين في تمردهم، أما قوله :﴿إِنَّا مَعَكُمْ﴾ ففيه سؤالان : السؤال الأول : هذا القائل أهم كل المنافقين أو بعضهم. الجواب : في هذا خلاف، لأن من يحمل الشياطين على كبار المنافقين يحمل هذا القول على أنه من صغارهم وكانوا يقولون للمؤمنين آمنا وإذا عادوا إلى أكابرهم قالوا إنا معكم ؛ لئلا يتوهموا فيهم المباينة، ومن يقول في الشياطين : المراد بهم الكفار لم يمنع إضافة هذا القول إلى كل المنافقين، ولا شبهة في أن المراد بشياطينهم أكابرهم، وهم إما الكفار وإما أكابر المنافقين، لأنهم هم الذين يقدرون على الإفساد في الأرض، وأما أصاغرهم فلا. السؤال الثاني : لم كانت مخاطبتهم المؤمنين بالجملة الفعلية، وشياطينهم بالجملة الإسمية محققة "بأن" الجواب : ليس ما خاطبوا به المؤمنين جديراً بأقوى الكلامين، لأنهم كانوا في ادعاء حدوث الإيمان منهم لا في ادعاء أنهم في الدرجة الكاملة منه، إما لأن أنفسهم لا تساعدهم على المبالغة لأن القول الصادر عن النفاق والكراهة قلما يحصل معه المبالغة ؛ وإما لعلمهم بأن ادعاء الكمال في الإيمان لا يروج على المسلمين، وأما كلامهم مع إخوانهم فهم كانوا يقولونه عن الاعتقاد وعلموا أن المستمعين يقبلون ذلك منهم، فلا جرم كان التأكيد لائقاً به. أما قوله :
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣٠٨