المسألة الثانية : الآية دالة على فضل الصدق وكمال درجته، والذي يؤيده من الوجوه الدالة على أن الأمر كذلك وجوه : الأول : روي أن واحداً جاء إلى النبي عليه السلام وقال : إني رجل أريد أن أومن بك إلا أني أحب الخمر والزنا والسرقة والكذب، والناس يقولون إنك تحرم هذه الأشياء ولا طاقة لي على تركها بأسرها، فإن قنعت مني بترك واحد منها آمنت بك، فقال عليه السلام / "اترك الكذب" فقبل ذلك ثم أسلم، فلما خرج من عند النبي عليه السلام عرضوا عليه الخمر، فقال : إن شربت وسألني الرسول عن شربها وكذبت فقد نقضت العهد، وإن صدقت أقام الحد علي فتركها ثم عرضوا عليه الزنا، فجاء ذلك الخاطر فتركه، وكذا في السرقة، فعاد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم وقال : ما أحسن ما فعلت، لما منعتني عن الكذب انسدت أبواب المعاصي علي، وتاب عن الكل. الثاني : روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال : عليكم بالصدق فإنه يقرب إلى البر والبر يقرب إلى الجنة، وإن العبد ليصدق فيكتب عند الله صديقاً وإياكم والكذب، فإن الكذب يقرب إلى الفجور. والفجور يقرب إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذاباً، ألا ترى أنه يقال صدقت وبررت وكذبت وفجرت، الثالث : قيل في قوله تعالى حكاية عن إبليس :﴿فَبِعِزَّتِكَ لاغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾ (ص : ٨٢، ٨٣) إن إبليس إنما ذكر هذا الاستثناء، لأنه لو لم يذكره لصار كاذباً في ادعاء إغواء الكل، فكأنه استنكف عن الكذب فذكر هذا الاستثناء، وإذا كان الكذب شيئاً يستنكف منه إبليس، فالمسلم أولى أن يستنكف منه. الرابع : من فضائل الصدق أن الإيمان منه لا من سائر الطاعات، ومن معايب الكذب أن الكفر منه لا من سائر الذنوب، واختلف الناس في أن المقتضي لقبحه ما هو ؟
فقال أصحابنا : المقتضي بقبحه هو كونه مخلاً لمصالح العالم ومصالح النفس، وقالت المعتزلة : المقتضى لقبحه هو كونه كذباً ودليلنا قوله تعالى :
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ١٦٨
﴿ يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِن جَآءَكُمْ فَاسِقُا بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمَا بِجَهَـالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَـادِمِينَ﴾ (الحجرات : ٦) يعني لا تقبلوا قول الفاسق فربما كان كذباً، فيتولد عن قبول ذلك الكذب فعل تصيرون نادمين عليه، وذلك يدل على أنه تعالى إنما أوجب رد ما يجوز كونه كذباً لاحتمال كونه مفضياً إلى ما يضاد المصالح، فوجب أن يكون المقتضى لقبح الكذب إفضاءه إلى المفاسد، واحتج القاضي على قوله بأن من دفع إلى طلب منفعة أو دفع مضرة وأمكنه الوصول إلى ذلك بأن يكذب وبأن يصدق فقد علم ببديهة العقل أنه لا يجوز أن يعدل عن الصدق إلى الكذب، ولو أمكنه أن يصل إلى ذلك بصدقين لجاز أن يعدل من أحدهما إلى الآخر، فلو كان الكذب يحسن لمنفعة أو إزالة مضرة لكان حاله حال الصدق. ولما لم يكن كذلك علم أنه لا يكون إلا قبيحاً، ولأنه لو جاز أن يحسن لوجب أن يجوز أن يأمر الله تعالى به إذا كان مصلحة، وذلك يؤدي إلى أن لا يوثق بأخباره، هذا ما ذكره في التفسير فيقال له في الجواب عن الأول إن الإنسان لما تقرر عنده من أول عمره تقبيح الكذب لأجل كونه مخلاً لمصالح العالم صار ذلك نصب عينه وصورة خياله فتلك الصورة النادرة إذا اتفقت للحكم عليها حكمت العادة الراسخة عليها بالقبح، فلو فرضتم كون الإنسان خالياً عن هذه العادة وفرضتم / استواء الصدق والكذب في الإفضاء إلى المطلوب/ فعلى هذا التقدير لا نسلم حصول الترجيح، ويقال له في الجواب عن الحجة الثانية، إنكم تثبتون امتناع الكذب على الله تعالى بكونه قبيحاً لكونه كذباً، فلو أثبتم هذا المعنى بامتناع صدوره عن الله لزم الدور وهو باطل.
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ١٦٨
١٧٠
اعلم أن الله تعالى لما أمر بقوله :﴿وَكُونُوا مَعَ الصَّـادِقِينَ﴾ بوجوب الكون في موافقة الرسول عليه السلام في جميع الغزوات والمشاهد، أكد ذلك فنهى في هذه الآية عن التخلف عنه. فقال :﴿مَا كَانَ لاهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الاعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُوا عَن رَّسُولِ اللَّهِ﴾ والأعراب الذين كانوا حول المدينة مزينة، وجهينة، وأشجع، وأسلم، وغفار، هكذا قاله ابن عباس. وقيل : بل هذا يتناول جميع الأعراب الذين كانوا حول المدينة فإن اللفظ عام، والتخصيص تحكم، وعلى القولين فليس لهم أن يتخلفوا عن رسول الله، ولا يطلبوا لأنفسهم الحفظ والدعة حال ما يكون رسول الله في الحر والمشقة، وقوله :﴿وَلا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِه ﴾ يقال : رغبت بنفسي عن هذا الأمر أي توقفت عنه / وتركته، وأنا أرغب بفلان عن هذا أي أبخل به عليه ولا أتركه. والمعنى : ليس لهم أن يكرهوا لأنفسهم ما يرضاه الرسول عليه الصلاة والسلام لنفسه.


الصفحة التالية
Icon