والجواب : أنه تعالى قادر على خلق جميع العالم في أقل من لمح البصر. والدليل عليه أن العالم مركب من الأجزاء التي لا تتجزى، والجزء الذي لا يتجزى لا يمكن إيجاده إلا دفعه، لأنا لو فرضنا أن إيجاده إنما يحصل في زمان، فذلك الزمان منقسم لا محالة من آنات متعاقبة، فهل حصل شيء من ذلك الإيجاد في الأن الأول أو لم يحصل، فإن لم يحصل منه شيء في الآن الأول فهو خارج عن مدة الإيجاد، وإن حصل في ذلك الآن إيجاد شيء وحصل في الآن الثاني إيجاد شيء آخر، فهما / إن كانا جزأين من ذلك الجزء الذي لا يتجزى، فحينئذ يكون الجزء الذي لا يتجزى متجزئاً. وهو محال. وإن كان شيئاً آخر، فحينئذ يكون إيجاد الجزء الذي لا يتجزى لا يمكن إلا في آن واحد دفعة واحدة، وكذا القول في إيجاد جميع الأجزاء. فثبت أنه تعالى قادر على إيجاد جميع العالم دفعة واحدة، ولا شك أيضاً أنه تعالى قادر على إيجاده وتكوينه على التدريج.
وإذا ثبت هذا فنقول ههنا مذهبان : الأول : قول أصحابنا وهو أنه يحسن منه كلما أراد، ولا يعلل شيء من أفعاله بشيء من الحكمة والمصالح، وعلى هذا القول يسقط قول من يقول : لم خلق العالم في ستة أيام وما خلقه في لحظة واحدة ؟
لأنا نقول كل شيء صنعه ولا علة لصنعه فلا يعلل شيء من أحكامه ولا شيء من أفعاله بعلة، فسقط هذا السؤال. الثاني : قول المعتزلة وهو أنهم يقولون يجب أن تكون أفعاله تعالى مشتملة على المصلحة والحكمة. فعند هذا قال القاضي : لا يبعد أن يكون خلق الله تعالى السموات والأرض في هذه المدة المخصوصة، أدخل في الاعتبار في حق بعض المكلفين. ثم قال القاضي :
فإن قيل : فمن المعتبر وما وجه الاعتبار ؟
ثم أجاب وقال : أما المعتبر فهو أنه لا بد من مكلف أو غير مكلف من الحيوان خلقه الله تعالى قبل خلقه للسموات والأرضين، أو معهما، وإلا لكان خلقهما عبثاً.
فإن قيل : فهلا جاز أن يخلقهما لأجل حيوان يخلقه من بعد ؟
قلنا : إنه تعالى لا يخاف الفوت، فلا يجوز أن يقدم خلق ما لا ينتفع به أحد، لأجل حيوان سيحدث بعد ذلك، وإنما يصح منا ذلك في مقدمات الأمور لأنا نخشى الفوت، ونخاف العجز والقصور. قال : وإذا ثبت هذا فقد صح ما روي في الخبر أن خلق الملائكة كان سابقاً على خلق السموات والأرض.
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ١٩٣
فإن قيل : أولئك الملائكة لا بد لهم من مكان، فقبل خلق السموات والأرض لا مكان، فكيف يمكن وجودهم بلا مكان ؟
قلنا : الذي يقدر على تسكين العرش والسموات والأرض في أمكنتها كيف يعجز عن تسكين أولئك الملائكة في أحيازها بقدرته وحكمته ؟
وأما وجه الاعتبار في ذلك فهو أنه لما حصل هناك معتبر، لم يمتنع أن يكون اعتباره بما يشاهده حالاً بعد حال أقوى. والدليل عليه : أن ما يحدث على هذا الوجه، فإنه يدل على أنه صادر من فاعل حكيم. وأما المخلوق دفعة واحدة فإنه لا يدل على ذلك.
والسؤال الثالث : فهل هذه الأيام كأيام الدنيا أو كما روي عن ابن عباس أنه قال : إنها ستة أيام من أيام الآخرة كل يوم منها ألف سنة مما تعدون ؟
والجواب : قال القاضي : الظاهر في ذلك أنه تعريف لعباده مدة خلقه لهما، ولا يجوز أن يكون ذلك تعريفاً، إلا والمدة هذه الأيام المعلومة.
ولقائل أن يقول : لما وقع التعريف بالأيام المذكورة في التوراة والإنجيل، وكان المذكور هناك أيام الآخرة لا أيام الدنيا، لم يكن ذلك قادحاً في صحة التعريف.
السؤال الرابع : هذه الأيام إنما تتقدر بحسب طلوع الشمس وغروبها، وهذا المعنى مفقود قبل خلقها، فكيف يعقل هذا التعريف ؟
والجواب التعريف يحصل بما أنه لو وقع حدوث السموات والأرض في مدة، لو حصل هناك أفلاك دائرة وشمس وقمر، لكانت تلك المدة مساوية لستة أيام :
ولقائل أن يقول : فهذا يقتضي حصول مدة قبل خلق العالم، يحصل فيها حدوث العالم، وذلك يوجب قدم المدة.
وجوابه : أن تلك المدة غير موجودة بل هي مفروضة موهومة، والدليل عليه أن تلك المدة المعينة حادثة، وحدوثها لا يحتاج إلى مدة أخرى، وإلا لزم إثبات أزمنة لا نهاية لها وذلك محال، فكل ما يقولون في حدوث المدة فنحن نقوله في حدوث العالم.
السؤال الخامس : أن اليوم قد يراد به اليوم مع ليلته، وقد يراد به النهار وحده. فالمراد بهذه الآية أيهما.
والجواب : الغالب في اللغة أنه يراد باليوم. اليوم بليلته.
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ١٩٣


الصفحة التالية
Icon