المسألة الثانية : أما قوله :﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ﴾ ففيه مباحث : الأول : أن هذا يوهم كونه تعالى مستقراً على العرش والكلام المستقصى فيه مذكور في أول سورة طه، ولكنا نكتفي ههنا بعبارة وجيزة. فنقول : هذه الآية لا يمكن حملها على ظاهرها، ويدل عليه وجوه : الأول : أن الاستواء على العرش معناه كونه معتمداً عليه مستقراً عليه، بحيث لولا العرش لسقط ونزل، كما أنا إذا قلنا إن فلاناً مستو على سريره. فإنه يفهم منه هذا هذا المعنى. إلا أن إثبات هذا المعنى يقتضي كونه محتاجاً إلى العرش، وإنه لولا العرش لسقط ونزل، وذلك محال، لأن المسلمين أطبقوا على أن الله تعالى هو الممسك للعرش والحافظ له، ولا يقول أحد أن العرش هو الممسك لله تعالى والحافظ له. والثاني : أن قوله :﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ﴾ يدل على أنه قبل ذلك ما كان مستوياً عليه/ / وذلك يدل على أنه تعالى يتغير من حال إلى حال، وكل من كان متغيراً كان محدثاً، وذلك بالاتفاق باطل. الثالث : أنه لما حدث الاستواء في هذا الوقت، فهذا يقتضي أنه تعالى كان قبل هذا الوقت مضظرباً متحركاً، وكل ذلك من صفات المحدثات. الرابع : أن ظاهر الآية يدل على أنه تعالى إنما استوى على العرش بعد أن خلق السموات والأرض لأن كلمة ﴿ثُمَّ﴾ تقتضي التراخي وذلك يدل على أنه تعالى كان قبل خلق العرش غنياً عن العرش، فإذا خلق العرش امتنع أن تنقلب حقيقته وذاته من الاستغناء إلى الحاجة. فوجب أن يبقى بعد خلق العرش غنياً عن العرش، ومن كان كذلك امتنع أن يكون مستقراً على العرش. فثبت بهذه الوجوه أن هذه الآية لا يمكن حملها على ظاهرها بالاتفاق، وإذا كان كذلك امتنع الاستدلال بها في إثبات المكان والجهة لله تعالى.
المسألة الثالثة : اتفق المسلمون على أن فوق السموات جسماً عظيماً هو العرش.
إذا ثبت هذا فنقول : العرش المذكور في هذه الآية هل المراد منه ذلك العرش أو غيره ؟
فيه قولان :
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ١٩٣
القول الأول : وهو الذي اختاره أبو مسلم الأصفهاني، أنه ليس المراد منه ذلك، بل المراد من قوله :﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ﴾ أنه لما خلق السموات والأرض سطحها ورفع سمكها، فإن كل بناء فإنه يسمى عرشاً، وبانيه يسمى عارشاً، قال تعالى :﴿وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ﴾ (النحل : ٦٨) أي يبنون، وقال في صفة القرية ﴿فَهِىَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا﴾ (الحج : ٤٥) والمراد أن تلك القرية خلت منهم مع سلامة بنائها وقيام سقوفها، وقال :﴿وَكَانَ عَرْشُه عَلَى الْمَآءِ﴾ (هود : ٧) أي بناؤه، وإنما ذكر الله تعالى ذلك لأنه أعجب في القدرة، فالباني يبني البناء متباعداً عن الماء على الأرض الصلبة لئلا ينهدم، والله تعالى بنى السموات والأرض على الماء ليعرف العقلاء قدرته وكمال جلالته، والاستواء على العرش هو الاستعلاء عليه بالقهر، والدليل عليه قوله تعالى :﴿وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْفُلْكِ وَالانْعَـامِ مَا تَرْكَبُونَ * لِتَسْتَوُا عَلَى ظُهُورِه ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ﴾ (الزخرف : ١٢، ١٣) قال أبو مسلم : فثبت أن اللفظ يحتمل هذا الذي ذكرناه. فنقول : وجب حمل اللفظ عليه، ولا يجوز حمله على العرش الذي في السماء، والدليل عليه هو أن الاستدلال على وجود الصانع تعالى، يجب أن يحصل بشيء معلوم مشاهد، والعرش الذي في السماء ليس كذلك، وأما أجرام السموات والأرضين فهي مشاهدة محسوسة، فكان الاستدلال بأحوالها على وجود الصانع الحكيم جائزاً صواباً حسناً. ثم قال : ومما يؤكد ذلك أن قوله تعالى :﴿خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾ إشارة إلى تخليق ذواتها، وقوله :﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ﴾ يكون إشارة إلى تسطيحها وتشكيلها بالأشكال الموافقة لمصالحها، وعلى هذا الوجه تصير هذه الآية موافقة لقوله / سبحانه وتعالى :﴿ءَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَآءُا بَنَـاـاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاـاهَا﴾ (النازعات : ٢٧، ٢٨) فذكر أولاً أنه بناها، ثم ذكر ثانياً أنه رفع سمكها فسواها. وكذلك ههنا. ذكر بقوله :﴿خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ﴾ أنه خلق ذواتها ثم ذكر بقوله :﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ﴾ أنه قصد إلى تعريشها وتسطيحها وتشكيلها بالأشكال الموافقة لها.
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ١٩٣