والقول الثاني : وهو القول المشهور لجمهور المفسرين : أن المراد من العرش المذكور في هذه الآية : الجسم العظيم الذي في السماء، وهؤلاء قالوا إن قوله تعالى :﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ﴾ لا يمكن أن يكون معناه أنه تعالى خلق العرش بعد خلق السموات والأرضين بدليل أنه تعالى قال في آية أخرى ﴿وَكَانَ عَرْشُه عَلَى الْمَآءِ﴾ (هود : ٧) وذلك يدل على أن تكوين العرش سابق على تخليق السموات والأرضين. بل يجب تفسير هذه الآية بوجوه أخر. وهو أن يكون المراد : ثم يدبر الأمر وهو مستو على العرش.
والقول الثالث : أن المراد من العرش الملك، يقال فلان ولي عرشه أي ملكه فقوله :﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ﴾ المراد أنه تعالى لما خلق السموات والأرض واستدارت الأفلاك والكواكب، وجعل بسبب دورانها الفصول الأربعة والأحوال المختلفة من المعادن والنبات والحيوانات، ففي هذا الوقت قد حصل وجود هذه المخلوقات والكائنات. والحاصل أن العرش عبارة عن الملك، وملك الله تعالى عبارة عن وجود مخلوقاته، ووجود مخلوقاته إنما حصل بعد تخليق السموات والأرض، لا جرم صح إدخال حرف ﴿ثُمَّ﴾ الذي يفيد التراخي على الاستواء على العرش والله أعلم بمراده.
المسألة الرابعة : أما قوله :﴿يُدَبِّرُ الامْرَ ﴾ معناه أنه يقضي ويقدر على حسب مقتضى الحكمة ويفعل ما يفعله المصيب في أفعاله، الناظر في أدبار الأمور وعواقبها، كي لا يدخل في الوجود ما لا ينبغي. والمراد من ﴿الامْرَ ﴾ الشأن يعني يدبر أحوال الخلق وأحوال ملكوت السموات والأرض.
فإن قيل : ما موقع هذه الجملة ؟
قلنا : قد دل بكونه خالقاً للسموات والأرض في ستة أيام وبكونه مستوياً على العرش، على نهاية العظمة وغاية الجلالة. ثم أتبعها بهذه الجملة ليدل على أنه لا يحدث في العالم العلوي ولا في العالم السفلي أمر من الأمور ولاحادث من الحوادث، إلا بتقديره وتدبيره وقضائه وحكمه، فيصير ذلك دليلاً على نهاية القدرة والحكمة والعلم والإحاطة التدبير، وأنه سبحانه مبدع جميع الممكنات، وإليه تنتهي الحاجات.
وأما قوله تعالى :﴿مَا مِن شَفِيعٍ إِلا مِنا بَعْدِ إِذْنِه ﴾ ففيه قولان :
القول الأول : وهو المشهور أن المراد منه أن تدبيره للأشياء وصنعه لها، لا يكون بشفاعة شفيع وتدبير مدبر. ولا يستجرىء أحد أن يشفع إليه في شيء إلا بعد إذنه، لأنه تعالى أعلم بموضع الحكمة والصواب، فلا يجوز لهم أن يسألوه ما لا يعلمون أنه صواب وصلاح.
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ١٩٣
فإن قيل : كيف يليق ذكر الشفيع بصفة مبدئية الخلق، وإنما يليق ذكره بأحوال القيامة ؟
والجواب من وجوه :
الوجه الأول : ما ذكره الزجاج : وهو أن الكفار الذين كانوا مخاطبين بهذه الآية كانوا يقولون : إن الأصنام شفعاؤنا عند الله، فالمراد منه الرد عليهم في هذا القول وهو كقوله تعالى :﴿يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَـا اـاِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَـانُ﴾ (النبأ : ٣٨).
والوجه الثاني : وهو يمكن أن يقال إنه تعالى لما بين كونه إلهاً للعالم مستقلاً بالتصرف فيه من غير شريك ولا منازع، بين أمر المبدأ بقوله :﴿يُدَبِّرُ الامْرَ ﴾ وبين حال المعاد بقوله :﴿مَا مِن شَفِيعٍ إِلا مِنا بَعْدِ إِذْنِه ﴾.
والوجه الثالث : يمكن أيضاً أن يقال إنه تعالى وضع تدبير الأمور في أول خلق العالم على أحسن الوجوه وأقربها من رعاية المصالح، مع أنه ما كان هناك شفيع يشفع في طلب تحصيل المصالح، فدل هذا على أن إله العالم ناظر لعباده محسن إليهم مريد للخير والرأفة بهم، ولا حاجة في كونه سبحانه كذلك إلى حضور شفيع يشفع فيه.
والقول الثاني : في تفسير هذا الشفيع ما ذكره أبو مسلم الأصفهاني، فقال : الشفيع ههنا هو الثاني، وهو مأخوذ من الشفع الذي يخالف الوتر، كما يقال الزوج والفرد، فمعنى الآية خلق السموات والأرض وحده ولا حي معه ولا شريك يعينه، ثم خلق الملائكة والجن والبشر، وهو المراد من قوله :﴿إِلا مِنا بَعْدِ إِذْنِه ﴾ أي لم يحدث أحد ولم يدخل في الوجود، إلا من بعد أن قال له : كن، حتى كان وحصل.
واعلم أنه تعالى لما بين هذه الدلائل وشرح هذه الأحوال، ختمها بعد ذلك بقوله :﴿ذَالِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوه ﴾ مبيناً بذلك أن العبادة لا تصلح إلا له، ومنبهاً على أنه سبحانه هو المستحق لجميع العبادات لأجل أنه هو المنعم بجميع النعم التي ذكرها ووصفها.
ثم قال بعده :﴿أَفَلا تَذَكَّرُونَ﴾ دالاً بذلك على وجوب التفكر في تلك الدلائل القاهرة الباهرة، وذلك يدل على أن التفكر في مخلوقات الله تعالى والاستدلال بها على جلالته وعزته وعظمته، أعلى / المراتب وأكمل الدرجات.
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ١٩٣
٢٠٧
اعلم أنه سبحانه وتعالى لما ذكر الدلائل الدالة على إثبات المبدأ، أردفه بما يدل على صحة القول بالمعاد. وفيه مسائل :


الصفحة التالية
Icon