المسألة الأولى : في بيان أن إنكار الحشر والنشر ليس من العلوم البديهية، ويدل عليه وجوه : الأول : أن العقلاء اختلفوا في وقوعه وعدم وقوعه. وقال بإمكانه عالم من الناس، وهم جمهور أرباب الملل والأديان. وما كان معلوم الامتناع بالبديهة امتنع وقوع الاختلاف فيه. الثاني : أنا إذا رجعنا إلى عقولنا السليمة، وعرضنا عليها أن الواحد ضعف الاثنين، وعرضنا عليها أيضاً هذه القضية، لم نجد هذه القضية في قوة الامتناع مثل القضية الأولى. الثالث : أنا إما أن نقول بثبوت النفس الناطقة أولا نقول به. فإن قلنا به فقد زال الإشكال بالكلية، فإنه كما لا يمتنع تعلق هذه النفس بالبدن في المرة الأولى، لم يمتنع تعلقها بالبدن مرة أخرى. وإن أنكرنا القول بالنفس فالاحتمال أيضاً قائم، لأنه لا يبعد أن يقال إنه سبحانه يركب تلك الأجزاء المفرقة تركيباً ثانياً، ويخلق الأنسان الأول مرة أخرى. والرابع : أنه سبحانه ذكر أمثلة كثيرة دالة على إمكان الحشر والنشر ونحن نجمعها ههنا.
فالمثال الأول : أنا نرى الأرض خاشعة وقت الخريف، ونرى اليبس مستولياً عليها بسبب شدة الحر في الصيف. ثم إنه تعالى ينزل المطر عليها وقت الشتاء والربيع، فتصير بعد ذلك متحلية بالأزهار العجيبة والأنوار الغريبة كما قال تعالى :﴿وَاللَّهُ الَّذِى أَرْسَلَ الرِّيَـاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَـاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الارْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ﴾ (فاطر : ٩) وثانيها : قوله تعالى :﴿وَمِنْ ءَايَـاتِه أَنَّكَ تَرَى الارْضَ خَـاشِعَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَآءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ ﴾ (فصلت : ٣٩) إلى قوله :﴿ذَالِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّه يُحْىِ الْمَوْتَى ﴾ (الحج : ٦) وثالثها : قوله تعالى :﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَسَلَكَه يَنَـابِيعَ فِى الارْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِه زَرْعًا مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُه ثُمَّ﴾ (الزمر : ٢١) والمراد كونه منبهاً على أمر المعاد. ورابعها : قوله :﴿ثُمَّ أَمَاتَه فَأَقْبَرَه * ثُمَّ إِذَا شَآءَ أَنشَرَه * كَلا لَمَّا يَقْضِ مَآ أَمَرَه * فَلْيَنظُرِ الانسَـانُ إِلَى طَعَامِه ﴾ (عبس : ٢١ ـ ٢٤) وقال عليه السلام :"إذا رأيتم الربيع فأكثروا ذكر النشور" ولم تحصل المشابهة بين الربيع وبين النشور إلا من الوجه الذي ذكرناه.
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٢٠٧
المثال الثاني : ما يجده كل واحد منا من نفسه من الزيادة والنمو بسبب السمن، ومن النقصان والذبول بسبب الهزال، ثم إنه قد يعود إلى حالته الأولى بالسمن.
وإذا ثبت هذا فنقول : ما جاز تكون بعضه لم يمتنع أيضاً تكون كله، ولما ثبت ذلك ظهر أن الإعادة غير ممتنعة، وإليه الإشارة بقوله تعالى :﴿وَنُنشِئَكُمْ فِى مَا لا تَعْلَمُونَ﴾ (الواقعة : ٦١) يعني أنه سبحانه لما كان قادراً على إنشاء ذواتكم أولاً ثم على إنشاء أجزائكم حال حياتكم ثانياً شيئاً فشيئاً من غير أن تكونوا عالمين بوقت حدوثه وبوقت نقصانه. فوجب القطع أيضاً بأنه لا يمتنع عليه سبحانه إعادتكم بعد البلى في القبور لحشر يوم القيامة.