الحجة الحادية عشر : ما ذكره الله تعالى في قوله :﴿أَوَلَمْ يَرَ الانسَـانُ أَنَّا خَلَقْنَـاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مٌّبِينٌ﴾ واعلم أن قوله سبحانه :﴿خَلَقْنَـاهُ مِن نُّطْفَةٍ﴾ (يس : ٧٧) إشارة إلى ما ذكرناه في الحجة العاشرة من أن تلك الأجزاء كانت متفرقة في مشارق الأرض ومغاربها، فجمعها الله تعالى وخلق من تركيبها هذا الحيوان، والذي يقويه قوله سبحانه :﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الانسَـانَ مِن سُلَـالَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَـاهُ نُطْفَةً فِى قَرَارٍ مَّكِينٍ﴾ (المؤمنون : ١٢، ١٣) فإن تفسيره هذه الآية إنما يصح بالوجه الذي ذكرناه، وهو أن السلالة من الطين يتكون منها نبات، ثم إن ذلك النبات يأكله الإنسان فيتولد منه الدم، ثم الدم ينقلب نطفة، فبهذا الطريق ينتظم ظاهر هذه الآية. ثم إنه سبحانه بعد أن ذكر هذا المعنى حكى كلام المنكر، وهو قوله تعالى :﴿قَالَ مَن يُحْىِ الْعِظَـامَ وَهِىَ رَمِيمٌ﴾ (يس : ٧٨) ثم إنه تعالى بين إمكان هذا المذهب.
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٢٠٧
واعلم أن إثبات إمكان الشيء لا يعقل إلا بطريقين : أحدهما : أن يقال : إن مثله ممكن، فوجب أن يكون هذا أيضاً ممكناً. والثاني : أن يقال : إن ما هو أعظم منه وأعلى حالاً منه، فهو أيضاً ممكن. ثم إنه تعالى ذكر الطريق الأول أولاً فقال :﴿قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِى أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍا وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ﴾ (يس : ٧٩) ثم فيه دقيقة وهي أن قوله :﴿قُلْ يُحْيِيهَا﴾ إشارة إلى كمال القدرة، وقوله :﴿وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ﴾ إشارة إلى كمال العلم. ومنكروا الحشر والنشر لا ينكرونه إلا لجهلهم بهذين الأصلين، لأنهم تارة يقولون : إنه تعالى موجب بالذات، والموجب بالذات لا يصح منه القصد إلى التكوين، وتارة يقولون إنه يمتنع كونه عالماً بالجزئيات، فيمتنع منه تمييز أجزاء بدن زيد عن أجزاء بدن عمرو، ولما كانت شبه الفلاسفة مستخرجة من هذين الأصلين، لا جرم كلما ذكر الله تعالى مسألة المعاد أردفه بتقرير هذين الأصلين ثم إنه تعالى ذكر بعده الطريق الثاني، وهو الاستدلال بالأعلى على الأدنى، وتقريره من وجهين : الأول : أن الحياة لا تحصل إلا بالحرارة والرطوبة، والتراب بارد يابس، فحصلت المضادة بينهما. إلا أنا نقول : الحرارة النارية أقوى في صفة الحرارة من الحرارة الغريزية، فلما لم يمتنع تولد الحرارة النارية عن الشجر الأخضر مع كمال ما بينهما من المضادة، فكيف يمتنع حدوث الحرارة الغريزية / في جرم التراب ؟
الثاني : قوله تعالى :﴿أَوَلَيْسَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ بِقَـادِرٍ عَلَى ا أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم ﴾ (يس : ٨١) بمعنى أنه لما سلمتم أنه تعالى هو الخالق لأجرام الأفلاك والكواكب، فكيف يمكنكم الامتناع من كونه قادراً على الحشر والنشر ؟
ثم إنه تعالى حسم مادة الشبهات بقوله :﴿إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَىْءٍ إِذَآ أَرَدْنَـاهُ أَن نَّقُولَ لَه كُن فَيَكُونُ﴾ (النحل : ٤٠) والمراد أن تخليقه وتكوينه لا يتوقف على حصول الآلات والأدوات ونطفة الأب ورحم الأم، والدليل عليه أنه خلق الأب الأول، لا عن أب سابق عليه، فدل ذلك على كونه سبحانه غنياً في الخلق والإيجاد والتكوين عن الوسائط والآلات. ثم قال سبحانه :﴿فَسُبْحَـانَ الَّذِى بِيَدِه مَلَكُوتُ كُلِّ شَىْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ (يس : ٨٣) أي سبحانه من أن لا يعيدهم ويهمل أمر المظلومين، ولا ينتصف للعاجزين من الظالمين، وهو المعنى المذكور في هذه الآية التي نحن في تفسيرها، وهي قوله سبحانه :﴿إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا ﴾.
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٢٠٧


الصفحة التالية
Icon