اعلم أنه تعالى استدل على التوحيد والإلهيات أولاً : بتخليق السموات والأرض، وثانياً : بأحوال الشمس والقمر، وثالثاً : في هذه الآية بالمنافع الحاصلة من اختلاف الليل والنهار، وقد تقدم تفسيره في سورة البقرة في تفسير قوله :﴿إِنَّ فِى خَلْقِ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ﴾ (آل عمران : ٩) ورابعاً : بكل ما خلق الله في السموات والأرض، وهي أقسام الحوادث الحادثة في هذا العالم، وهي محصورة في أربعة أقسام : أحدها : الأحوال الحادثة في العناصر الأربعة، ويدخل فيها أحوال الرعد والبرق والسحاب والأمطار والثلوج. ويدخل فيها أيضاً أحوال البحار، وأحوال المد والجزر، وأحوال الصواعق والزلازل والخسف. وثانيها : أحوال المعادن وهي عجيبة كثيرة. وثالثها : اختلاف أحوال النبات. ورابعها : اختلاف أحوال الحيوانات، وجملة هذه الأقسام الأربعة داخلة في قوله تعالى :﴿وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ﴾ والاستقصاء في شرح هذه الأحوال مما لا يمكن في ألف مجلد، بل كل ما ذكره العقلاء في أحوال أقسام هذا العالم فهو جزء مختصر من هذا الباب.
ثم إنه تعالى بعد ذكر هذه الدلائل قال :﴿لايَـاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ﴾ فخصها بالمتقين، لأنهم يحذرون العاقبة فيدعوهم الحذر إلى التدبر والنظر. قال القفال : من تدبر في هذه الأحوال علم أن الدنيا مخلوقة لشقاء الناس فيها، وأن خالقها وخالقهم ما أهملهم، بل جعلها لهم دار عمل. وإذا كان كذلك فلا بد من أمر ونهي، ثم من ثواب وعقاب، ليتميز المحسن عن المسيء، فهذه الأحوال في الحقيقة دالة على صحة القول بإثبات المبدأ وإثبات المعاد.
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٢١٠
٢١٢
اعلم أنه تعالى لما أقام الدلائل القاهرة على صحة القول بإثبات الإله الرحيم الحكيم، وعلى صحة القول بالمعاد والحشر والنشر، شرع بعده في شرح أحوال من يكفر بها، وفي شرح أحوال من يؤمن بها. فأما شرح أحوال الكافرين فهو المذكور في هذه الآية. واعلم أنه تعالى وصفهم بصفات أربعة :
الصفة الأولى : قوله :﴿إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَآءَنَا﴾ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : في تفسير هذا الرجاء قولان :
القول الأول : وهو قول ابن عباس ومقاتل والكلبي : معناه : لا يخافون البعث، والمعنى : أنهم لا يخافون ذلك لأنهم لا يؤمنون بها. والدليل على تفسير الرجاء ههنا بالخوف قوله تعالى :﴿إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَـاـاهَا﴾ (النازعات : ٤٥) وقوله :﴿وَهُم مِّنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ﴾ (الأنبياء : ٤٩) وتفسير الرجاء بالخوف جائز كما قال تعالى :﴿مَّا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا﴾ (نوح : ١٣) قال الهذلي :
إذا لسعته النحل لم يرج لسعها
والقول الثاني : تفسير الرجاء بالطمع، فقوله :﴿لا يَرْجُونَ لِقَآءَنَا﴾ أي لا يطمعون في ثوابنا، فيكون هذا الرجاء هو الذي ضده اليأس، كما قال :﴿قَدْ يَـاـاِسُوا مِنَ الآخِرَةِ كَمَا يَـاـاِسَ الْكُفَّارُ﴾.
واعلم أن حمل الرجاء على الخوف بعيد، لأن تفسير الضد بالضد غير جائز، ولا مانع ههنا من حمل الرجاء على ظاهره ألبتة، والدليل عليه أن لقاء الله إما أن يكون المراد منه تجلي جلال الله تعالى للعبد وإشراق نور كبريائه في روحه، وإما أن يكون المراد منه الوصول إلى ثواب الله تعالى وإلى رحمته. فإن كان الأول فهو أعظم الدرجات وأشرف السعادات وأكمل الخيرات، فالعاقل كيف لا يرجوه، وكيف لا يتمناه ؟
وإن كان الثاني فكذلك، لأن كل أحد يرجو من الله تعالى أن يوصله إلى ثوابه ومقامات رحمته، وإذا كان كذلك فكل من آمن بالله فهو يرجو ثوابه، وكل من لم يؤمن بالله ولا بالمعاد فقد أبطل على نفسه هذا الرجاء، فلا جرم حسن جعل عدم هذا الرجاء كناية عن عدم الإيمان بالله واليوم الآخر.
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٢١٢
المسألة الثانية : اللقاء هو الوصول إلى الشيء، وهذا في حق الله تعالى محال، لكونه منزهاً عن الحد والنهاية، فوجب أن يجعل مجازاً عن الرؤية، وهذا مجاز ظاهر. فإنه يقال : لقيت فلاناً إذا رأيته، وحمله على لقاء ثواب الله يقتضي زيادة في الإضمار وهو خلاف الدليل.
واعلم أنه ثبت بالدلائل اليقينية أن سعادة النفس بعد الموت في أن تتجلى فيها معرفة الله تعالى ويكمل إشراقها ويقوي لمعانها، وذلك هو الرؤية، وهي من أعظم السعادات. فمن كان غافلاً عن طلبها معرضاً عنها مكتفياً بعد الموت بوجدان اللذات الحسية من الأكل والشرب والوقاع كان من الضالين.
الصفة الثانية : من صفات هؤلاء الكفار قوله تعالى :﴿وَرَضُوا بِالْحَيَواةِ الدُّنْيَا﴾.
واعلم أن الصفة الأولى إشارة إلى خلو قلبه عن طلب اللذات الروحانية، وفراغه عن طلب السعادات الحاصلة بالمعارف الربانية، وأما هذه الصفة الثانية فهي إشارة إلى استغراقه في طلب اللذات الجسمانية واكتفائه بها، واستغراقه في طلبها.
والصفة الثالثة : قوله تعالى :﴿وَاطْمَأَنُّوا بِهَا﴾ وفيه مسألتان :


الصفحة التالية
Icon