المسألة الأولى : صفة السعداء أن يحصل لهم عند ذكر الله نوع من الوجل والخوف كما قال تعالى :﴿الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ (الحج : ٣٥) ثم إذا قويت هذه الحالة حصلت الطمأنينة في ذكر الله تعالى كما قال تعالى :﴿وَتَطْمَـاـاِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّه أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَـاـاِنُّ الْقُلُوبُ﴾ (الرعد : ٢٨) وصفة الأشقياء أن تحصل لهم الطمأنينة في حب الدنيا، وفي الاشتغال بطلب لذاتها كما قال في هذه الآية :﴿وَاطْمَأَنُّوا بِهَا﴾ فحقيقة الطمأنينة أن يزول عن قلوبهم الوجل، فإذا سمعوا الإنذار والتخويف لم توجل قلوبهم وصارت كالميتة عند ذكر الله تعالى.
المسألة الثانية : مقتضى اللغة أن يقال : واطمأنوا إليها، إلا أن حروف الجر يحسن إقامة بعضها مقام البعض، فلهذا السبب قال :﴿وَاطْمَأَنُّوا بِهَا﴾.
والصفة الرابعة : قوله تعالى :﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ ءَايَـاتِنَا غَـافِلُونَ﴾ والمراد أنهم صاروا في الإعراض عن طلب لقاء الله تعالى. بمنزلة الغافل عن الشيء الذي لا يخطر بباله طول عمره ذكر ذلك الشيء، وبالجملة فهذه الصفات الأربعة دالة على شدة بعده عن طلب الاستسعاد بالسعادات الأخروية الروحانية، وعلى شدة استغراقه في طلب هذه الخيرات الجسمانية والسعادات الدنيوية.
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٢١٢
واعلم أنه تعالى لما وصفهم بهذه الصفات الأربعة قال :﴿ أولئك مَأْوَاـاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : النيران على أقسام : النار التي هي جسم محسوس مضيء محرق، صاعداً بالطبع، والإقرار به واجب، لأجل أنه ثبت بالدلائل المذكورة أن الإقرار بالجنة والنار حق.
القسم الثاني : النار الروحانية العقلية، وتقريره أن من أحب شيئاً حباً شديداً ثم ضاع عنه ذلك الشيء بحيث لا يمكنه الوصول إليه، فإنه يحترق قلبه وباطنه، وكل عاقل يقول : إن فلاناً محترق القلب محترق الباطن بسبب فراق ذلك المحبوب. وألم هذه النار أقوى بكثير من ألم النار المحسوسة.
إذا عرفت هذا فنقول : إن الأرواح التي كانت مستغرقة في حب الجسمانيات وكانت غافلة عن حب عالم الروحانيات، فإذا مات ذلك الإنسان وقعت الفرقة بين ذلك الروح وبين معشوقاته ومحبوباته، وهي أحوال هذا العالم، وليس له معرفة بذلك العالم ولا إلف مع أهل ذلك العالم، فيكون مثاله مثال من أخرج من مجالسة معشوقه وألقي في بئر ظلمانية لا إلف له بها، ولا معرفة له بأحوالها، فهذا الإنسان يكون في غاية الوحشة، وتألم الروح فكذا هنا، أما لو كان نفوراً عن هذه الجسمانيات عارفاً بمقابحها ومعايبها وكان شديد الرغبة في اعتلاق العروة الوثقى، عظيم الحب لله، كان مثاله مثال من كان محبوساً في سجن مظلم عفن مملوء من الحشرات المؤذية والآفات المهلكة، ثم اتفق أن فتح باب السجن وأخرج منه وأحضر في مجلس السلطان الأعظم مع الأحباب والأصدقاء، كما قال تعالى ﴿فَ أولئك مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّانَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَآءِ وَالصَّـالِحِينَا وَحَسُنَ أُوالَـا ئِكَ رَفِيقًا﴾ (النساء : ٦٩) فهذا هو الإشارة إلى تعريف النار الروحانية والجنة الروحانية.
المسألة الثانية : الباء في قوله :﴿بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ مشعر بأن الأعمال السابقة هي المؤثرة في حصول هذا العذاب ونظيره قوله تعالى :﴿ذَالِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّـامٍ لِّلْعَبِيدِ﴾.
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٢١٢
٢١٨
اعلم أنه تعالى لما شرح أحوال المنكرين والجاحدين في الآية المتقدمة، ذكر في هذه الآية أحوال المؤمنين المحقين، واعلم أنه تعالى ذكر صفاتهم أولاً، ثم ذكر مالهم من الأحوال السنية والدرجات / الرفيعة ثانياً، أما أحوالهم وصفاتهم فهي قوله :﴿إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ﴾ وفي تفسيره وجوه :
الوجه الأول : أن النفس الإنسانية لها قوتان :
القوة النظرية : وكمالها في معرفة الأشياء، ورئيس المعارف وسلطانها معرفة الله.
والقوة العملية : وكمالها في فعل الخيرات والطاعات، ورئيس الأعمال الصالحة وسلطانها خدمة الله. فقوله :﴿إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا ﴾ إشارة إلى كمال القوة النظرية بمعرفة الله تعالى وقوله :﴿وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ﴾ إشارة إلى كمال القوة العملية بخدمة الله تعالى، ولما كانت القوة النظرية مقدمة على القوة العملية بالشرف والرتبة، لا جرم وجب تقديمها في الذكر.
الوجه الثاني : في تفسير هذه الآية قال القفال :﴿إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ﴾ أي صدقوا بقلوبهم، ثم حققوا التصديق بالعمل الصالح الذي جاءت به الأنبياء والكتب من عند الله تعالى.