الوجه الثالث :﴿الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ أي شغلوا قلوبهم وأرواحهم بتحصيل المعرفة ﴿وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ﴾ أي شغلوا جوارحهم بالخدمة، فعينهم مشغولة بالاعتبار كما قال :﴿فَاعْتَبِرُوا يَـا أُوْلِى الابْصَـارِ﴾ (الحشر : ٢) وأذنهم مشغولة بسماع كلام الله تعالى كما قال :﴿وَإِذَا سَمِعُوا مَآ أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ﴾ (المائدة : ٨٣) ولسانهم مشغول بذكر الله كما قال تعالى :﴿عَلِيمًا * يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ﴾ (الأحزاب : ٤١) وجوارحهم مشغولة بنور طاعة الله كما قال :﴿أَلا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِى يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ﴾ (النمل : ٢٥).
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٢١٨
واعلم أنه تعالى لما وصفهم بالإيمان والأعمال الصالحة ذكر بعد ذلك درجات كراماتهم ومراتب سعاداتهم وهي أربعة.
المرتبة الأولى : قوله :﴿يَهْدِيهِمْ رَبُّهُم بِإِيمَـانِهِم تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الانْهَـارُ فِي جَنَّـاتِ النَّعِيمِ﴾ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : في تفسير قوله :﴿يَهْدِيهِمْ رَبُّهُم بِإِيمَـانِهِمْ ﴾ وجوه : الأول : أنه تعالى يهديهم إلى الجنة ثواباً لهم على إيمانهم وأعمالهم الصالحة، والذي يدل على صحة هذا التأويل وجوه : أحدها : قوله تعالى :﴿يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَـاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَـانِهِم﴾ (الحديد : ١٢) وثانيها : ما روي أنه عليه السلام قال :"إن المؤمن إذا خرج من قبره صور له عمله في صورة حسنة فيقول له أنا عملك فيكون له نوراً وقائداً إلى الجنة والكافر إذا خرج من قبره صور له عمله في صورة سيئة فيقول له أنا عملك فينطلق به حتى يدخله النار" وثالثها : قال مجاهد : المؤمنون يكون لهم نور يمشي بهم إلى الجنة. ورابعها : وهو الوجه العقلي أن الإيمان عبارة عن نور اتصل به من عالم القدس، وذلك النور كالخيط المتصل بين قلب المؤمن وبين ذلك العالم المقدس/ فإن حصل هذا الخط / النوراني قدر العبد على أن يقتدي بذلك النور ويرجع إلى عالم القدس، فأما إذا لم يوجد هذا الحبل النوراني تاه في ظلمات عالم الضلالات نعوذ بالله منه.
والتأويل الثاني : قال ابن الأنباري : إن إيمانهم يهديهم إلى خصائص في المعرفة ومزايا في الألفاظ ولوامع من النور تستنير بها قلوبهم، وتزول بواسطتها الشكوك والشبهات عنهم، كقوله تعالى :﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى﴾ (محمد : ١٧) وهذه الزوائد والفوائد والمزايا يجوز حصولها في الدنيا قبل الموت، ويجوز حصولها في الآخرة بعد الموت، قال القفال : وإذا حملنا الآية على هذا الوجه. كان المعنى يهديهم ربهم بإيمانهم وتجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم، إلا أن حذف الواو وجعل قوله :﴿تَجْرِى﴾ خبراً مستأنفاً منقطعاً عما قبله :
والتأويل الثالث : أن الكلام في تفسير هذه الآية يجب أن يكون مسبوقاً بمقدمات.
المقدمة الأولى : أن العلم نور والجهل ظلمة. وصريح العقل يشهد بأن الأمر كذلك، ومما يقرره أنك إذا ألقيت مسألة جليلة شريفة على شخصين، فاتفق أن فهمها أحدهما وما فهمها الآخر، فإنك ترى وجه الفاهم متهللاً مشرقاً مضيئاً، ووجه من لم يفهم عبوساً مظلماً منقبضاً، ولهذا السبب جرت عادة القرآن بالتعبير عن العلم والإيمان والنور، وعن الجهل والكفر بالظلمات.
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٢١٨
والمقدمة الثانية : أن الروح كاللوح، والعلوم والمعارف كالنقوش المنقوشة في ذلك اللوح. ثم ههنا دقيقة، وهي أن اللوح الجسماني إذا رسمت فيه نقوش جسمانية فحصول بعض النقوش في ذلك اللوح مانع من حصول سائر النقوش فيه، فأما لوح الروح فخاصيته على الضد من ذلك، فإن الروح إذا كانت خالية عن نقوش المعارف والعلوم فإنه يصعب عليه تحصيل المعارف والعلوم، فإذا احتال وحصل شيء منها، كان حصول ما حصل منها معيناً له على سهولة تحصيل الباقي، وكلما كان الحاصل أكثر كان تحصيل البقية أسهل، فالنقوش الجسمانية يكون بعضها مانعاً من حصول الباقي، والنقوش الروحانية يكون بعضها معيناً على حصول البقية، وذلك يدل على أن أحوال العالم الروحاني بالضد من أحوال العالم الجسماني.
المقدمة الثالثة : أن الأعمال الصالحة عبارة عن الأعمال التي تحمل النفس على ترك الدنيا وطلب الآخرة، والأعمال المذمومة ما تكون بالضد من ذلك.