والصفة الثانية : هي قوله تعالى :﴿وُجُوهٌ يَوْمَـاـاِذٍ خَـاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ﴾ (الغاشية : ٢، ٣) والغرض من نفي هاتين الصفتين، نفي أسباب الخوف والحزن والذل عنهم، ليعلم أن نعيمهم الذي ذكره الله تعالى خالص غير مشوب بالمكروهات، وإنه لا يجوز عليهم ما إذا حصل غير صفحة الوجه، ويزيل ما فيها من النضارة والطلاقة، ثم بين أنهم خالدون في الجنة لا يخافون الانقطاع.
واعلم أن علماء الأصول قالوا : الثواب منفعة خالصة دائمة مقرونة بالتعظيم، فقوله :﴿وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلَـامِ﴾ (يونس : ٢٥) يدل على غاية التعظيم. وقوله :﴿لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ﴾ يدل على حصول المنفعة وقوله :﴿وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ ﴾ يدل على كونها خالصة وقوله :﴿ أولئك أَصْحَـابُ الْجَنَّةِا هُمْ فِيهَا خَـالِدُونَ﴾ إشارة إلى كونها دائمة آمنة من الانقطاع والله أعلم.
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٢٤٢
٢٤٣
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنه كما شرح حال المسلمين في الآية المتقدمة، شرح حال من أقدم على السيئات في هذه الآية، وذكر تعالى من أحوالهم أموراً أربعة أولها : قوله :﴿جَزَآءُ سَيِّئَةا بِمِثْلِهَا﴾ والمقصود من هذا القيد التنبيه على الفرق بين الحسنات وبين السيئات، لأنه تعالى ذكر في أعمال البر أنه يوصل إلى المشتغلين بها الثواب مع الزيادة وأما في عمل السيئات، فإنه تعالى ذكر أنه لا يجازي / إلا بالمثل، والفرق هو أن الزيادة على الثواب تكون تفضلاً وذلك حسن، ويكون فيه تأكيد للترغيب في الطاعة، وأما الزيادة على قدر الاستحقاق في عمل السيئات، فهو ظلم، ولو فعله لبطل الوعد والوعيد والترهيب والتحذير، لأن الثقة بذلك إنما تحصل إذا ثبتت حكمته، ولو فعل الظلم لبطلت حكمته. تعالى الله عن ذلك، هكذا قرره القاضي تفريعاً على مذهبه. وثانيها : قوله :﴿وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ﴾ وذلك كناية عن الهوان والتحقير، واعلم أن الكمال محبوب لذاته، والنقصان مكروه لذاته، فالإنسان الناقص إذا مات بقيت روحه ناقصة خالية عن الكمالات، فيكون شعوره بكونه ناقصاً، سبباً لحصول الذلة والمهانة والخزي والنكال. وثالثها : قوله :﴿مَّا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ ﴾ واعلم أنه لا عاصم من الله لا في الدنيا ولا في الآخرة، فإن قضاءه محيط بجميع الكائنات، وقدره نافذ في كل المحدثات إلا أن الغالب على الطباع العاصية، أنهم في الحياة العاجلة مشتغلون بأعمالهم ومراداتهم. أما بعد الموت فكل أحد يقر بأنه ليس له من الله من عاصم. ورابعها : قوله :﴿وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَآءُ سَيِّئَةا بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ﴾ والمراد من هذا الكلام إثبات ما نفاه عن السعداء حيث قال :﴿وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ ﴾ (يونس : ٢٦).
واعلم أن حكماء الإسلام قالوا : المراد من هذا السواد المذكور ههنا سواد الجهل وظلمة الضلالة، فإن العلم طبعه طبع النور، والجهل طبعه طبع الظلمة، فقوله :﴿وُجُوهٌ يَوْمَـاـاِذٍ مُّسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ﴾ المراد منه نور العلم، وروحه وبشره وبشارته، وقوله :﴿وَوُجُوهٌ يَوْمَـاـاِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ﴾ المراد منه ظلمة الجهل وكدورة الضلالة.
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٢٤٣
المسألة الثانية : قوله :﴿وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ﴾ فيه وجهان : أحدهما : أن يكون معطوفاً على قوله :﴿لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا ﴾ (آل عمران : ١٧٢) كأنه قيل : للذين أحسنوا الحسنى وللذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها والثاني : أن يكون التقدير وجزاء الذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها. على معنى أن جزاءهم أن يجازي سيئة واحدة بسيئة مثلها لا يزاد عليها، وهذا يدل على أن حكم الله في حق المحسنين ليس إلا بالفضل، وفي حق المسيئين ليس إلا بالعدل.
المسألة الثالثة : قال بعضهم : المراد بقوله :﴿وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ﴾ الكفار واحتجوا عليه بأن سواد الوجه من علامات الكفر، بدليل قوله تعالى :﴿فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَـانِكُمْ﴾ (آل عمران : ١٠٦) وكذلك قوله :﴿وَوُجُوهٌ يَوْمَـاـاِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ * أولئك هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ﴾ ولأنه تعالى قال بعد هذه الآية ﴿وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا﴾ (الأنعام : ٢٢) والضمير في قوله :﴿هُمْ﴾ عائد إلى هؤلاء، ثم إنه تعالى وصفهم بالشرك، وذلك يدل على أن هؤلاء هم الكفار، ولأن العلم نور وسلطان العلوم والمعارف / هو معرفة الله تعالى، فكل قلب حصل فيه معرفة الله تعالى لم يحصل فيه الظلمة أصلاً، وكان الشبلي رحمة الله تعالى عليه يتمثل بهذا ويقول :
كل بيت أنت ساكنه
غير محتاج إلى السرج
وجهك المأمول حجتنا
يوم يأتي الناس بالحجج