وقال القاضي : إن قوله :﴿وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ﴾ عام يتناول الكافر والفاسق. إلا أنا نقول : الصيغة وإن كانت عامة إلا أن الدلائل التي ذكرناها تخصصه :
المسألة الرابعة : قال الفراء : في قوله :﴿جَزَآءُ سَيِّئَةا بِمِثْلِهَا﴾ وجهان : الأول : أن يكون التقدير : فلهم جزاء السيئة بمثلها، كما قال :﴿فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ﴾ (البقرة : ١٩٦) أي فعليه. والثاني : أن يعلق الجزاء بالباء في قوله :﴿بِمِثْلِهَا﴾ قال ابن الأنباري : وعلى هذا التقدير الثاني فلا بد من عائد الموصول. والتقدير : فجزاء سيئة منهم بمثلها.
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٢٤٣
أما قوله :﴿وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ﴾ فهو معطوف على يجازي، لأن قوله :﴿جَزَآءُ سَيِّئَةا بِمِثْلِهَا﴾ تقديره : يجازي سيئة بمثلها، وقرىء ﴿وَلا ذِلَّةٌ ﴾ بالياء.
أما قوله تعالى :﴿وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَآءُ سَيِّئَةا بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ﴾ ففيه مسائل :
المسألة الأولى :﴿أُغْشِيَتْ﴾ أي ألبست ﴿وُجُوهُهُمْ قِطَعًا﴾ قرأ ابن كثير والكسائي ﴿قِطَعًا﴾ بسكون الطاء، وقرأ الباقون بفتح الطاء، والقطع بسكون القطعة. وهي البعض، ومنه قوله تعالى ﴿قَالُوا يَـالُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ﴾ (هود : ٨١) أي قطعة. وأما قطع بفتح الطاء، فهو جمع قطعة، ومعنى الآية : وصف وجوههم بالسواد، حتى كأنها ألبست سواداً من الليل، كقوله تعالى :﴿تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ ﴾ (الزمر : ٦٠) وكقوله :﴿فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَـانِكُمْ﴾ (آل عمران : ١٠٦) وكقوله :﴿يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَـاهُمْ﴾ (الرحمن : ٤١) وتلك العلامة هي سواد الوجه وزرقة العين.
المسألة الثانية : قوله :﴿مُظْلِمًا ﴾ قال الفراء والزجاج : هو نعت لقوله :﴿قِطَعًا﴾ وقال أبو علي الفارسي : ويجوز أن يجعل حالاً كأنه قيل : أغشيت وجوههم قطعاً من الليل في حال ظلمته.
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٢٤٣
٢٤٥
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن هذا نوع آخر من شرح فضائح أولئك الكفار، فالضمير في قوله ﴿وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ﴾ عائد إلى المذكور السابق، وذلك هو قوله :﴿وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ﴾ (يونس : ٢٧) فلما وصف الله هؤلاء الذين يحشرهم بالشرك والكفر، دل على أن المراد من قوله :﴿وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ﴾ الكفار، وحاصل الكلام : أنه تعالى يحشر العابد والمعبود، ثم إن المعبود يتبرأ من العابد، ويتبين له أنه ما فعل ذلك بعلمه وإرادته، والمقصود منه أن القوم كانوا يقولون :﴿هَـا ؤُلاءِ شُفَعَـا ؤُنَا عِندَ اللَّه ﴾ (يونس : ١٨٠) فبين الله تعالى أنهم لا يشفعون لهؤلاء الكفار، بل يتبرؤن منهم، وذلك يدل على نهاية الخزي والنكال في حق هؤلاء الكفار، ونظيره آيات منها قوله تعالى :﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا ﴾ (البقرة : ١٦٦) ومنها قوله تعالى :﴿ثُمَّ يَقُولُ للملائكة أَهَـا ؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَـانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ ﴾ (سبأ : ٤٠/ ٤١).
واعلم أن هذا الكلام يشير على سبيل الرمز إلى دقيقة عقلية، وهي أن ما سوى الواحد الأحد الحق ممكن لذاته، والممكن لذاته محتاج بحسب ماهيته، والشيء الواحد يمتنع أن يكون قابلاً وفاعلاً معاً، فما سوى الواحد لأحد الحق لا تأثير له في الإيجاد والتكوين، فالممكن المحدث لا يليق به أن يكون معبوداً لغيره، بل المعبود الحق ليس إلا الموجد الحق، وذلك ليس إلا الموجود الحق الذي هو واجب الوجود لذاته، فبراءة المعبود من العابدين، يحتمل أن يكون المراد منه ما ذكرناه. والله أعلم بمراده.
المسألة الثانية :﴿الْحَشْرِ ﴾ الجمع من كل جانب إلى موقف واحد و﴿جَمِيعًا ﴾ نصب على الحال أي نحشر الكل حال اجتماعهم. و﴿مَكَانَكُمْ﴾ منصوب بإضمار الزموا. والتقدير : الزموا مكانكم و﴿أَنتُم﴾ تأكيد للضمير ﴿وَشُرَكَآؤُكُمْ ﴾ عطف عليه. واعلم أن قوله :﴿مَكَانَكُمْ﴾ كلمة مختصة بالتهديد والوعيد والمراد أنه تعالى يقول للعابدين والمعبودين مكانكم أي الزموا مكانكم حتى تسألوا، ونظيره قوله تعالى :﴿احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِن دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ * وَقِفُوهُم إِنَّهُم﴾ (الصافات : ٢٢ ـ ٢٤).
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٢٤٥
أما قوله :﴿وَشُرَكَآؤُكُم فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ ﴾ ففيه بحثان :
البحث الأول : أن هذه الكلمة جاءت على لفظ المضي بعد قوله :﴿ثُمَّ نَقُولُ﴾ وهو منتظر، والسبب فيه أن الذي حكم الله فيه، بأن سيكون صار كالكائن الراهن الآن، ونظيره قوله تعالى :﴿وَنَادَى ا أَصْحَـابُ الْجَنَّةِ﴾ (الأعراف : ٤٤).


الصفحة التالية
Icon