المسألة الثانية : قوله تعالى :﴿وَمَا كَانَ هَـاذَا الْقُرْءَانُ أَن يُفْتَرَى ﴾ فيه وجهان : الأول : أن قوله :﴿أَن يُفْتَرَى ﴾ في تقدير المصدر، والمعنى : وما كان هذا القرآن افتراء من دون الله، كما تقول : ما كان هذا الكلام إلا كذباً. والثاني : أن يقال إن كلمة ﴿ءَانٍ﴾ جاءت ههنا بمعنى اللام، والتقدير : ما كان هذا القرآن ليفترى من دون الله، كقوله :﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَآفَّةً ﴾ (التوبة : ١٢٢) ﴿كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ﴾ (آل عمران : ١٧٩) أي لم يكن ينبغي لهم أن يفعلوا ذلك، فكذلك ما ينبغي لهذا القرآن أن يفترى، أي ليس وصفه وصف شيء يمكن أن يفترى به على الله، لأن المفترى هو الذي يأتي به البشر، والقرآن معجز لا يقدر عليه البشر، والافتراء افتعال من فريت الأديم إذا قدرته للقطع، ثم استعمل في الكذب كما استعمل قولهم : اختلف فلان هذا الحديث في الكذب، فصار حاصل هذا الكلام أن هذا القرآن لا يقدر عليه أحد إلا الله عز وجل، ثم إنه تعالى احتج على هذه الدعوى بأمور :
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٢٥٦
الحجة الأولى : قوله :﴿وَلَـاكِن تَصْدِيقَ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ وتقرير هذه الحجة من وجوه : أحدها : أن محمداً عليه السلام كان رجلاً أمياً ما سافر إلى بلدة لأجل التعلم، وما كانت مكة بلدة العلماء، وما كان فيها شيء من كتب العلم، ثم إنه عليه السلام أتى بها القرآن، فكان هذا القرآن مشتملاً على أقاصيص الأولين، والقوم كانوا في غاية العداوة له، فلو لم تكن هذه الأقاصيص موافقة لما في التوراة والإنجيل لقدحوا فيه ولبالغوا في الطعن فيه، ولقالوا له إنك جئت بهذه الأقاصيص لا كما ينبغي، فلما لم يقل أحد ذلك مع شدة حرصهم على الطعن فيه، وعلى تقبيح صورته، علمنا أنه أتى بتلك الأقاصيص مطابقة لما في التوراة والإنجيل، مع أنه ما طالعهما ولا تلمذ لأحد فيهما، وذلك يدل على أنه عليه السلام إنما أخبر عن هذه الأشياء بوحي من قبل الله تعالى.
الحجة الثانية : أن كتب الله المنزلة دلت على مقدم محمد عليه السلام، على ما استقصينا في تقريره في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى :﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾ (البقرة : ٤٠) وإذا كان الأمر كذلك / كان مجيء محمد عليه السلام تصديقاً لما في تلك الكتب، من البشارة بمجيئه صلى الله عليه وسلّم، فكان هذا عبارة عن تصديق الذي بين يديه.
الحجة الثالثة : أنه عليه السلام أخبر في القرآن عن الغيوب الكثيرة في المستقبل، ووقعت مطابقة لذلك الخبر، كقوله تعالى :﴿ الر * ذَالِكَ الْكِتَـابُ لا رَيْبَا فِيه هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾ (الروم : ١، ٢) الآية، وكقوله تعالى :﴿لَّقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّءْيَا بِالْحَقِّ ﴾ (الفتح : ٢٧) وكقوله :﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى الارْضِ﴾ (النور : ٥٥) وذلك يدل على أن الإخبار عن هذه الغيوب المستقبلة، إنما حصل بالوحي من الله تعالى، فكان ذلك عبارة عن تصديق الذي بين يديه، فالوجهان الأولان : إخبار عن الغيوب الماضية والوجه الثالث : إخبار عن الغيوب المستقبلة، ومجموعها عبارة عن تصديق الذي بين يديه.
النوع الثاني : من الدلائل المذكورة في هذه الآية قوله تعالى :﴿وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَىْءٍ﴾.
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٢٥٦


الصفحة التالية
Icon