واعلم أن الناس اختلفوا في أن القرآن معجز من أي الوجوه ؟
فقال بعضهم : إنه معجز لاشتماله على الإخبار عن الغيوب الماضية والمستقبلة، وهذا هو المراد من قوله :﴿تَصْدِيقَ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ ومنهم من قال : إنه معجز لاشتماله على العلوم الكثيرة، وإليه الإشارة بقوله :﴿وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَىْءٍ﴾ وتحقيق الكلام في هذا الباب أن العلوم إما أن تكون دينية أو ليست دينية، ولا شك أن القسم الأول أرفع حالاً وأعظم شأناً وأكمل درجة من القسم الثاني. وأما العلوم الدينية، فإما أن تكون علم العقائد والأديان، وإما أن تكون علم الأعمال. أما علم العقائد والأديان فهو عبارة عن معرفة الله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. أما معرفة الله تعالى، فهي عبارة عن معرفة ذاته ومعرفة صفات جلاله، ومعرفة صفات إكرامه، ومعرفة أفعاله، ومعرفة أحكامه، ومعرفة أسمائه والقرآن مشتمل على دلائل هذه المسائل وتفاريعها وتفاصيلها على وجه لا يساويه شيء من الكتب، بل لا يقرب منه شيء من المصنفات. وأما علم الأعمال فهو إما أن يكون عبارة عن علم التكاليف المتعلقة بالظواهر وهو علم الفقه. ومعلوم أن جميع الفقهاء إنما استنبطوا مباحثهم من القرآن، وإما أن يكون علماً بتصفية الباطن أو رياضة القلوب. وقد حصل في القرآن من مباحث هذا العلم ما لا يكاد يوجد في غيره، كقوله :﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَـاهِلِينَ﴾ (الأعراف : ١٩٩) وقوله :﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالاحْسَانِ وَإِيتَآى ِ ذِى الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَآءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْىِ ﴾ (النمل : ٩٠) فثبت أن القرآن مشتمل على تفاصيل جميع العلوم الشريفة، عقليها ونقليها، اشتمالاً يمتنع حصوله في سائر الكتب فكان ذلك معجزاً، وإليه الإشارة بقوله :﴿وَتَفْصِيلَ الْكِتَـابِ﴾.
أما قوله :﴿لا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَـالَمِينَ﴾ فتقريره : أن الكتاب الطويل المشتمل على هذه / العلوم الكثيرة لا بد وأن يشتمل على نوع من أنواع التناقض، وحيث خلي هذا الكتاب عنه، علمنا أنه من عند الله وبوحيه وتنزيله، ونظيره قوله تعالى :﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَـافًا كَثِيرًا﴾ (النساء : ٨٢).
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٢٥٦
واعلم أنه تعالى لما ذكر في أول هذه الآية أن هذا القرآن لا يليق بحاله وصفته أن يكون كلاماً مفترى على الله تعالى/ وأقام عليه هذين النوعين من الدلائل المذكورة، عاد مرة أخرى بلفظ الاستفهام على سبيل الإنكار، فقال :﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاـاه ﴾ ثم إنه تعالى ذكر حجة أخرى على إبطال هذا القول، فقال :﴿قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّثْلِه وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ﴾ وهذه الحجة بالغنا في تقريرها في تفسير قوله تعالى في سورة البقرة :﴿وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِه وَادْعُوا شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ﴾ (البقرة : ٢٣) وههنا سؤالات :
السؤال الأول : لم قال في سورة البقرة :﴿مِّن مِّثْلِه ﴾ وقال ههنا :﴿فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّثْلِه ﴾.
والجواب : أن محمداً عليه السلام كان رجلاً أمياً، لم يتلمذ لأحد ولم يطالع كتاباً فقال في سورة البقرة :﴿فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِه ﴾ يعني فليأت إنسان يساوي محمداً عليه السلام في عدم التلمذ وعدم مطالعة الكتب وعدم الاشتغال بالعلوم بسورة تساوي هذه السورة، وحيث ظهر العجز ظهر المعجز. فهذا لا يدل على أن السورة في نفسها معجزة، ولكنه يدل على أن ظهور مثل هذه السورة من إنسان مثل محمد عليه السلام في عدم التلمذ والتعلم معجز، ثم إنه تعالى بين في هذه السورة أن تلك السورة في نفسها معجز، فإن الخلق وإن تلمذوا وتعلموا وطالعوا وتفكروا، فإنه لا يمكنهم الإتيان بمعارضة سورة واحدة من هذه السور، فلا جرم قال تعالى في هذه الآية :﴿فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّثْلِه ﴾ ولا شك أن هذا ترتيب عجيب في باب التحدي وإظهار المعجز.
السؤال الثاني : قوله :﴿فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّثْلِه ﴾ هل يتناول جميع السور الصغار والكبار، أو يختص بالسور الكبار.
الجواب : هذه الآية في سورة يونس وهي مكية، فالمراد مثل هذه السورة، لأنها أقرب ما يمكن أن يشار إليه.
السؤال الثالث : أن المعتزلة تمسكوا بهذه الآية على أن القرآن مخلوق، قالوا : إنه عليه السلام تحدى العرب بالقرآن، والمراد من التحدي : أنه طلب منهم الإتيان بمثله، فإذا عجزوا عنه ظهر كونه حجة من عند الله على صدقه، وهذا إنما يمكن لو كان الإتيان بمثله صحيح الوجود في الجملة ولو كان قديماً لكان الإتيان بمثل القديم محالاً في نفس الأمر، فوجب أن لا يصح التحدي.
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٢٥٦


الصفحة التالية
Icon