المسألة الخامسة : ذكروا في سبب هذا الاستقلال وجوهاً : الأول : قال أبو مسلم : لما ضيعوا أعمارهم في طلب الدنيا والحرص على لذاتها لم ينتفعوا بعمرهم ألبتة، فكان وجود ذلك العمر كالعدم، فلهذا السبب استقلوه ونظيره قوله تعالى :﴿وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِه مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ ﴾ (البقرة : ٩٦) الثاني : قال الأصم : قل ذلك عندهم لما شاهدوا من أهوال الآخرة، والأنسان إذا عظم خوفه نسي الأمور الظاهرة. الثالث : أنه قل عندهم مقامهم في الدنيا في جنب مقامهم في الآخرة وفي العذاب المؤبد. الرابع : أنه قل عندهم مقامهم في الدنيا لطول وقوفهم في الحشر. الخامس : المراد أنهم عند خروجهم من القبور يتعارفون كما كانوا يتعارفون في الدنيا، وكأنهم لم يتعارفوا بسبب الموت إلا مدة قليلة لا تؤثر في ذلك التعارف. وأقول : تحقيق الكلام في هذا الباب، أن عذاب الكافر مضرة خالصة دائمة مقرونة بالإهانة والإذلال، والإحساس بالمضرة أقوى من الإحساس باللذة بدليل أن أقوى اللذات هي لذات الوقاع، والشعور بأم القولنج وغيره والعياذ بالله تعالى أقوى من الشعور بلذة الوقاع. وأيضاً لذات الدنيا مع خساستها ما كانت خالصة، بل كانت مخلوطة بالهمومات الكثيرة، وكانت تلك اللذات مغلوبة بالمؤلمات والآفات، وأيضاً إن لذات الدنيا ما حصلت إلا بعض أوقات الحياة الدنيوية، وآلام الآخرة أبدية سرمدية لا تنقطع ألبتة ونسبة عمر جميع الدنيا إلى الآخرة الأبدية أقل من الجزء الذي لا يتجزأ بالنسبة إلى ألف ألف عالم مثل العالم الموجود.
إذا عرفت هذا فنقول : أنه متى قوبلت الخيرات الحاصلة بسبب الحياة العاجلة بالآفات الحاصلة للكافر وجدت أقل من اللذة بالنسبة إلى جميع العالم فقوله :﴿كَأَن لَّمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ﴾ إشارة إلى ما ذكرناه من قلتها وحقارتها في جنب ما حصل من العذاب الشديد.
أما قوله :﴿يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ ﴾ ففيه وجوه : الأول : يعرف بعضهم بعضاً كما كانوا يعرفون في الدنيا. الثاني : يعرف بعضهم بعضاً بما كانوا عليه من الخطأ والكفر، ثم تنقطع المعرفة إذا / عاينوا العذاب وتبرأ بعضهم من بعض.
فإن قيل : كيف توافق هذه الآية قوله :﴿وَلا يَسْـاَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا﴾ (المعارج : ١٠) والجواب عنه من وجهين :
الوجه الأول : أن المراد من هذه الآية أنهم يتعارفون بينهم يوبخ بعضهم بعضاً، فيقول : كل فريق للآخر أنت أضللتني يوم كذا وزينت لي الفعل الفلاني من القبائح، فهذا تعارف تقبيح وتعنيف وتباعد وتقاطع لا تعارف عطف وشفقة. وأما قوله تعالى :﴿وَلا يَسْـاَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا﴾ فالمراد سؤال الرحمة والعطف.
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٢٦١
والوجه الثاني : في الجواب حمل هاتين الآيتين على حالتين، وهو أنهم يتعارفون إذا بعثوا ثم تنقطع المعرفة فلذلك لا يسأل حميم حميماً.
أما قوله تعالى :﴿قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَآءِ اللَّهِ﴾ ففيه وجهان : الأول : أن يكون التقدير : ويوم يحشرهم حال كونهم متعارفين، وحال كونهم قائلين ﴿قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَآءِ اللَّهِ﴾ الثاني : أن يكون ﴿قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا ﴾ كلام الله، فيكون هذا شهادة من الله عليهم بالخسران، والمعنى : أن من باع آخرته بالدنيا فقد خسر، لأنه أعطى الكثير الشريف الباقي وأخذ القليل الخسيس الفاني.
وأما قوله :﴿وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ﴾ فالمراد أنهم ما اهتدوا إلى رعاية مصالح هذه التجارة، وذلك لأنهم اغتروا بالظاهر وغفلوا عن الحقيقة، فصاروا كمن رأى زجاجة حسنة فظنها جوهرة شريفة فاشتراها بكل ما ملكه، فإذا عرضها على الناقدين خاب سعيه وفات أمله ووقع في حرقة الروع وعذاب القلب. وأما قوله :﴿وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِى نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ﴾ فاعلم أن قوله ﴿فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ﴾ جواب ﴿نَتَوَفَّيَنَّكَ﴾ وجواب ﴿نُرِيَنَّكَ﴾ محذوف، والتقدير : وإما نرينك بعض الذي نعدهم في الدنيا فذاك أو نتوفينك قبل أن نرينك ذلك الموعد فإنك ستراه في الآخرة.
واعلم أن هذا يدل على أنه تعالى يُري رسوله أنواعاً من ذل الكافرين وخزيهم في الدنيا، وسيزيد عليه بعد وفاته، ولا شك أنه حصل الكثير منه في زمان حياة رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وحصل الكثير أيضاً بعد وفاته، والذي سيحصل يوم القيامة أكثر، وهو تنبيه على أن عاقبة المحقين محمودة وعاقبة المذنبين مذمومة.
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٢٦١
٢٦٢
اعلم أنه تعالى لما بين حال محمد صلى الله عليه وسلّم مع قومه، بين أن حال كل الأنبياء مع أقوامهم كذلك، وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : هذه الآية تدل على أن كل جماعة ممن تقدم قد بعث الله إليهم رسولاً والله تعالى ما أهمل أمة من الأمم قط، ويتأكد هذا بقوله تعالى :﴿وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ﴾ (فاطر : ٢٤).


الصفحة التالية
Icon