فإن قيل : كيف يصح هذا مع ما يعلمه من أحوال الفترة ومع قوله سبحانه :﴿لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّآ أُنذِرَ ءَابَآؤُهُمْ﴾ (يس : ٦).
قلنا : الدليل الذي ذكرناه لا يوجب أن يكون الرسول حاضراً مع القوم، لأن تقدم الرسول لا يمنع من كونه رسولاً إليهم، كما لا يمنع تقدم رسولنا من كونه مبعوثاً إلينا إلى آخر الأبد. وتحمل الفترة على ضعف دعوة الأنبياء ووقوع موجبات التخليط فيها.
المسألة الثانية : في الكلام إضمار والتقدير : فإذا جاء رسولهم وبلغ فكذبه قوم وصدقه آخرون قضى بينهم أي حكم وفصل.
المسألة الثالثة : المراد من الآية أحد أمرين : إما بيان أن الرسول إذا بعث إلى كل أمة فإنه بالتبليغ وإقامة الحجة يزيح كل علة فلا يبقى لهم عذر في مخالفته أو تكذيبه، فيدل ذلك على أن ما يجري عليهم من العذاب في الآخرة يكون عدلاً ولا يكون ظلماً، لأنهم من قبل أنفسهم وقعوا في ذلك العقاب، أو يكون المراد أن القوم إذا اجتمعوا في الآخرة جمع الله بينهم وبين رسولهم في وقت المحاسبة، وبأن الفصل بين المطيع والعاصي ليشهد عليهم بما شاهد منهم، وليقع منهم الاعتراف بأنه بلغ رسالات ربه فيكون ذلك من جملة ما يؤكد الله به الزجر في الدنيا كالمساءلة، وإنطاق الجوارح، والشهادة عليهم بأعمالهم والموازين وغيرها، وتمام التقرير على هذا الوجه الثاني أنه تعالى ذكر في الآية الأولى أن الله شهيد عليهم، فكأنه تعالى يقول : أنا شهيد عليهم وعلى أعمالهم يوم القيامة، ومع ذلك فإني أحضر في موقف القيامة مع كل قوم رسولهم، حتى يشهد عليهم بتلك الأعمال. والمراد منه المبالغة في إظهار العدل.
واعلم أن دليل القول الأول هو قوله تعالى :﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا﴾ (الإسراء : ١٥) وقوله :﴿رُّسُلا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّة بَعْدَ الرُّسُلِ ﴾ (النساء : ١٦٥) وقوله :﴿وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَـاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِه لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا﴾ (طه : ١٣٤) ودليل القول الثاني قوله تعالى :﴿وَكَذَالِكَ جَعَلْنَـاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ إلى قوله :﴿وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾ (البقرة : ١٤٣) وقوله :﴿وَقَالَ الرَّسُولُ يَـارَبِّ إِنَّ قَوْمِى اتَّخَذُوا هَـاذَا الْقُرْءاَنَ مَهْجُورًا﴾ (الفرقان : ٣٠) وقوله تعالى :﴿قُضِىَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ﴾ فالتكرير لأجل التأكيد والمبالغة في نفي الظلم.
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٢٦٢
٢٦٣
اعلم أن هذه الشبهة الخامسة من شبهات منكري النبوة فإنه عليه السلام كلما هددهم بنزول العذاب ومر زمان ولم يظهر ذلك العذاب، قالوا متى هذا الوعد إن كنتم صادقين، واحتجوا بعدم ظهوره على القدح في نوبته عليه السلام، وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : أن قوله تعالى :﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هَـاذَا الْوَعْدُ﴾ كالدليل على أن المراد مما تقدم من قوله :﴿قُضِىَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ﴾ (يونس : ١٤٧) القضاء بذلك في الدنيا، لأنه لا يجوز أن يقولوا متى هذا الوعد عند حضورهم في الدار الآخرة، لأن الحال في الآخرة حال يقين ومعرفة لحصول كل وعد ووعيد وإلا ظهر أنهم إنما قالوا ذلك على وجه التكذيب للرسول عليه السلام فيما أخبرهم من نزول العذاب للأعداء والنصرة للأولياء أو على وجه الاستبعاد لكونه محقاً في ذلك الإخبار، ويدل هذا القول على أن كل أمة قالت لرسولها مثل ذلك القول بدليل قوله :﴿إِن كُنتُمْ﴾ وذلك لفظ جمع وهو موافق لقوله :﴿يَفْعَلُونَ * وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ ﴾ (يونس : ٤٧) ثم إنه تعالى أمره بأن يجيب عن هذه الشبهة بجواب يحسم المادة وهو قوله :﴿قُل لا أَمْلِكُ لِنَفْسِى ضَرًّا وَلا نَفْعًا إِلا مَا شَآءَ اللَّه ﴾ والمراد أن إنزال العذاب على الأعداء وإظهار النصرة للأولياء لا يقدر عليه أحد إلا الله سبحانه، وأنه تعالى ما عين لذلك الوعد والوعيد وقتاً معيناً حتى يقال : لما لم يحصل ذلك الموعود في ذلك الوقت، دل على حصول الخلف فكان تعيين الوقت مفوضاً إلى الله سبحانه، إما بحسب مشيئته وإلهيته عند من لا يعلل أفعاله وأحكامه برعاية المصالح، وإما بحسب المصلحة المقدرة عند من يعلل أفعاله وأحكامه برعاية المصالح، ثم إذا حضر الوقت الذي وقته الله تعالى لحدوث ذلك الحادث فإنه لا بد وأن يحدث فيه، ويمتنع عليه التقدم والتأخر.
المسألة الثانية : المعتزلة احتجوا بقوله :﴿قُل لا أَمْلِكُ لِنَفْسِى ضَرًّا وَلا نَفْعًا إِلا مَا شَآءَ اللَّه ﴾ / فقالوا : هذا الاستثناء يدل على أن العبد لا يملمصالح، ثم إذا حضر الوقت الذي وقته الله تعالى لحدوث ذلك الحادث فإنه لا بد وأن يحدث فيه، ويمتنع عليه التقدم والتأخر.
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٢٦٣


الصفحة التالية
Icon