والبحث الثاني : من مباحث هذه الآية أنه إذا حصلت اللذات الروحانية فإنه يجب على العاقل أن لا يفرح بها من حيث هي هي، بل يجب أن يفرح بها من حيث إنها من الله تعالى وبفضل الله وبرحمته، فلهذا السبب قال الصديقون : من فرح بنعمة الله من حيث إنها تلك النعمة فهو مشرك، أما من فرح بنعمة الله من حيث إنها من الله كان فرحه بالله، وذلك هو غاية الكمال ونهاية السعادة فقوله سبحانه :﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِه فَبِذَالِكَ فَلْيَفْرَحُوا ﴾ يعني فليفرحوا بتلك النعم لا من حيث هي هي، بل من حيث إنها بفضل الله وبرحمة الله، فهذه أسرار عالية اشتملت عليها هذه الألفاظ التي ظهرت من عالم الوحي والتنزيل، هذا ما تلخص عندنا في هذا الباب، أما المفسرون فقالوا : فضل الله الإسلام، ورحمته القرآن. وقال أبو سعيد الخدري : فضل الله القرآن، ورحمته أن جعلكم من أهله.
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٢٧١
المسألة الرابعة : قرىء بالتاء، قال الفراء : وقد ذكر عن زيد بن ثابت أنه قرأ بالتاء وقال : معناه فبذلك فلتفرحوا يا أصحاب محمد هو خير مما يجمع الكفار، قال وقريب من هذه القراءة قراءة أبي ﴿فَبِذَالِكَ﴾ والأصل في الأمر للمخاطب والغائب اللام نحو لتقم يا زيد وليقم زيد، وذلك لأن حكم الأمر في الصورتين واحد، إلا أن العرب حذفوا اللام من فعل المأمور المخاطب لكثرة استعماله، وحذفوا التاء أيضاً وأدخلوا ألف الوصل نحو اضرب واقتل ليقع الابتداء به وكان الكسائي يعيب قولهم فليفرحوا لأنه وجده قليلاً فجعله عيباً إلا أن ذلك هو الأصل، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال في بعض المشاهد :"لتأخذوا مصافكم" يريد به خذوا، هذا كله كلام / الفراء. وقرىء بالتاء ووجهه أنه تعالى عنى المخاطبين والغائبين إلا أنه غلب المخاطب على الغائب كما يغلب التذكير على التأنيث، فكأنه أراد المؤمنين هكذا قاله أهل اللغة وفيه دقيقة عقلية وهو أن الإنسان حصل فيه معنى يدعوه إلى خدمة الله تعالى وإلى الاتصال بعالم الغيب ومعارج الروحانيات، وفيه معنى آخر يدعوه إلى عالم الحس والجسم واللذات الجسدانية، وما دام الروح متعلقاً بهذا الجسد، فإنه لا ينفك عن حب الجسد، وعن طلب اللذات الجسمانية، فكأنه تعالى خاطب الصديقين العارفين، وقال : حصلت الخصومة بين الحوادث العقلية الإلهية وبين النوازع النفسانية الجسدانية، والترجيح لجانب العقل لأنه يدعو إلى فضل الله ورحمته والنفس تدعو إلى جمع الدنيا وشهواتها وفضل الله ورحمته خير لكم مما تجمعون من الدنيا لأن الآخرة خير وأبقى، وما كان كذلك فهو أولى بالطلب والتحصيل.
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٢٧١
٢٧٢
وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن الناس ذكروا في تعلق هذه الآية بما قبلها وجوهاً، ولا أستحسن واحداً منها. والذي يخطر بالبال والعلم عند الله تعالى وجهان : الأول : أن المقصود من هذا الكلام ذكر طريق ثالث في إثبات النبوة. وتقريره أنه عليه الصلاة والسلام قال للقوم :"إنكم تحكمون بحل بعض الأشياء وحرمة بعضها فهذا الحكم تقولونه على سبيل الافتراء على الله تعالى، أو تعلمون أنه حكم حكم الله به" والأول طريق باطل بالاتفاق، فلم يبق إلا الثاني، ثم من المعلوم أنه تعالى ما خاطبكم به من غير واسطة، ولما بطل هذا، ثبت أن هذه الأحكام إنما وصلت إليكم بقول رسول أرسله الله إليكم ونبي بعثه الله إليكم، وحاصل الكلام أن حكمهم بحل بعض الأشياء وحرمة بعضها مع اشتراك الكل في الصفات المحسوسة والمنافع المحسوسة، يدل على اعترافكم بصحة النبوة والرسالة وإذا / كان الأمر كذلك، فكيف يمكنكم أن تبالغوا هذه المبالغات العظيمة في إنكار النبوة والرسالة وحمل الآية على هذا الوجه الذي ذكرته طريق حسن معقول.
الطريق الثاني : في حسن تعلق هذه الآية بما قبلها هو أنه عليه الصلاة والسلام، لما ذكر الدلائل الكثيرة على صحة نبوة نفسه وبين فساد سؤالاتهم وشبهاتهم في إنكارها، أتبع ذلك ببيان فساد طريقتهم في شرائعهم وأحكامهم وبين أن التمييز بين هذه الأشياء بالحل والحرمة، مع أنه لم يشهد بذلك لا عقل ولا نقل طريق باطل ومنهج فاسد، والمقصود إبطال مذاهب القوم في أديانهم وفي أحكامهم، وأنهم ليسوا على شيء في باب من الأبواب.


الصفحة التالية
Icon