المسألة الثانية : المراد بالشيء الذي جعلوه حراماً ما ذكروه من تحريم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام وأيضاً قوله تعالى :﴿يَفْتَرُونَ * وَقَالُوا هَـاذِه أَنْعَـامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ﴾ (الأنعام : ١٣٨) إلى قوله :﴿وَقَالُوا مَا فِى بُطُونِ هَـاذِهِ الانْعَـامِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى ا أَزْوَاجِنَا ﴾ (الأنعام : ١٣٩) وأيضاً قوله تعالى :﴿ثَمَـانِيَةَ أَزْوَاجٍا مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ ﴾ (الأنعام : ١٤٣) والدليل عليه أن قوله :﴿فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا﴾ إشارة إلى أمر تقدم منهم، ولم يحك الله تعالى عنهم إلا هذا، فوجب توجه هذا الكلام إليه، ثم لما حكى تعالى عنهم ذلك قال لرسوله عليه الصلاة والسلام :﴿قُلْ ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُم أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ﴾ وهذه القسمة صحيحة، لأن هذه الأحكام إما أن تكون من الله تعالى أو لم تكن من الله فإن كانت من الله تعالى، فهو المراد بقوله :﴿ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ ﴾ وإن كانت ليست من الله. فهو المراد بقوله :﴿أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ﴾.
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٢٧٢
ثم قال تعالى :﴿وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ﴾ وهذا وإن كان في صورة الاستعلام فالمراد منه تعظيم وعيد من يفتري على الله. وقرأ عيسى بن عمر ﴿وَمَا ظَنُّ﴾ على لفظ الفعل ومعناه أي ظن ظنوه يوم القيامة وجيء به على لفظ الماضي لما ذكرنا أن أحوال القيامة وإن كانت آتية إلا أنها لما كانت واجبة الوقوع في الحكمة ولا جرم عبر الله عنها بصيغة الماضي.
ثم قال :﴿إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ﴾ أي بإعطاء العقل وإرسال الرسل وإنزال الكتب ﴿وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ﴾ فلا يستعملون للعقل في التأمل في دلائل الله تعالى ولا يقبلون دعوة أنبياء الله ولا ينتفعون باستماع كتب الله.
المسألة الثالثة : ما في قوله تعالى :﴿قُلْ أَرَءَيْتُم مَّآ أَنزَلَ اللَّهُ﴾ فيه وجهان : أحدهما : بمعنى الذي فينتصب برأيتم والآخر أن يكون بمعنى أي في الاستفهام، فينتصب بأنزل وهو قول الزجاج، ومعنى أنزل ههنا خلق وأنشأ كقوله :﴿وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ الانْعَـامِ ثَمَـانِيَةَ أَزْوَاجٍ ﴾ (الزمر : ٦) وجاز أن يعبر عن الخلق بالإنزال، لأن كل ما في الأرض من رزق فما أنزل من السماء من ضرع وزرع وغيرهما، فلما كان إيجاده بالإنزال سمي إنزالاً.
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٢٧٢
٢٧٥
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنه لما أطال الكلام في أمر الرسول بإيراد الدلائل على فساد مذاهب الكفار، وفي أمره بإيراد الجواب عن شبهاتهم، وفي أمره بتحمل أذاهم، وبالرفق معهم ذكر هذا الكلام ليحصل به تمام السلوة والسرور للمطيعين، وتمام الخوف والفزع للمذنبين، وهو كونه سبحانه عالماً بعمل كل واحد، وبما في قلبه من الدواعي والصوارف، فإن الإنسان ربما أظهر من نفسه نسكاً وطاعة وزهداً وتقوى، ويكون باطنه مملوأ من الخبث وربما كان بالعكس من ذلك فإذا كان الحق سبحانه عالماً بما في البواطن كان ذلك من أعظم أنواع السرور للمطيعين ومن أعظم أنواع التهديد للمذنبين.