المسألة الثانية : اعلم أنه تعالى خصص الرسول في أول هذه الآية بالخطاب في أمرين، ثم أتبع ذلك بتعميم الخطاب مع كل المكلفين في شيء واحد، أما الأمران المخصوصان بالرسول عليه الصلاة والسلام. فالأول : منهما قوله :﴿وَمَا تَكُونُ فِى شَأْنٍ﴾ واعلم أن ﴿مَّآ﴾ ههنا جحد والشأن الخطب والجمع الشؤن، تقول العرب ما شأن فلان أي ما حاله، قال الأخفش : وتقول ما شأنت شأنه أي ما عملت عمله، وفيه وجهان : قال ابن عباس : وما تكون يا محمد في شأن يريد من أعمال البر وقال الحسن : في شأن من شأن الدنيا وحوائجك فيها. والثاني : منهما قوله تعالى :﴿وَمَا تَكُونُ فِى شَأْنٍ وَمَا﴾ واختلفوا في أن الضمير في قوله :﴿مِنْهُ﴾ إلى ماذا يعود ؟
وذكروا فيه ثلاثة أوجه : الأول : أنه راجع إلى الشأن لأن تلاوة القرآن شأن من شأن رسول الله صلى الله عليه وسلّم، بل هو معظم / شأنه، وعلى هذا التقدير، فكان هذا داخلاً تحت قوله :﴿وَمَا تَكُونُ فِى شَأْنٍ﴾ إلا أنه خصه بالذكر تنبيهاً على علو مرتبته، كما في قوله تعالى :﴿وَمَلـا ـاـاِكَتِه وَرُسُلِه وَجِبْرِيلَ وَمِيكَـالَ﴾ (البقرة : ٩٨) وكما في قوله :﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّنَ مِيثَـاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ﴾ (الأحزاب : ٧) والثاني : أن هذا الضمير عائد إلى القرآن والتقدير : وما تتلو من القرآن من قرآن، وذلك لأن كما أن القرآن اسم للمجموع، فكذلك هو اسم لكل جزء من أجزاء القرآن والإضمار قبل الذكر، يدل على التعظيم. الثالث : أن يكون التقدير : وما تتلو من قرآن من الله أي نازل من عند الله. وأقول : قوله :﴿وَمَا تَكُونُ فِى شَأْنٍ وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِن قُرْءَانٍ﴾ أمران مخصوصان بالرسول صلى الله عليه وسلّم.
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٢٧٥
وأما قوله :﴿وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ﴾ فهذا خطاب مع النبي ومع جميع الأمة. والسبب في أن خص الرسول بالخطاب أولاً، ثم عمم الخطاب مع الكل، هو أن قوله :﴿وَمَا تَكُونُ فِى شَأْنٍ وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِن قُرْءَانٍ﴾ وإن كان بحسب الظاهر خطاباً مختصاً بالرسول، إلا أن الأمة داخلون فيه ومرادون منه، لأنه من المعلوم أنه إذا خوطب رئيس القوم كان القوم داخلين في ذلك الخطاب. والدليل عليه قوله تعالى :﴿الْحَكِيمُ * يَـا أيُّهَا النَّبِىُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ﴾ (الطلاق : ١) ثم إنه تعالى بعد أن خص الرسول بذينك الخطابين عمم الكل بالخطاب الثالث فقال :﴿وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ﴾ فدل ذلك على كونهم داخلين في الخطابين الأولين.
ثم قال تعالى :﴿إِلا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا﴾ وذلك لأن الله تعالى شاهد على كل شيء، وعالم بكل شيء، أما على أصول أهل السنة والجماعة، فالأمر فيه ظاهر، لأنه لا محدث ولا خالق ولا موجد إلا الله تعالى. فكل ما يدخل في الوجود من أفعال العباد وأعمالهم الظاهرة والباطنة، فكلها حصلت بإيجاد الله تعالى وإحداثه. والموجد للشيء لا بد وأن يكون عالماً به، فوجب كونه تعالى عالماً بكل المعلومات، وأما على أصول المعتزلة، فقد قالوا : إنه تعالى حي وكل من كان حياً، فإنه يصح أن يعلم كل واحد من المعلومات، والموجب لتلك العالمية، هو ذاته سبحانه. فنسبة ذاته إلى اقتضاء حصول العالمية ببعض المعلومات كنسبة ذاته إلى اقتضاء حصول العالمية بسائر المعلومات، فلما اقتضت ذاته حصول العالمية ببعض المعلومات وجب أن تقتضي حصول العالمية بجميع المعلومات فثبت كونه تعالى عالماً بجميع المعلومات.
أما قوله تعالى :﴿لِّلْعَـالَمِينَ﴾ فاعلم أن الإفاضة ههنا الدخول في العمل على جهة الانصباب إليه وهو الانبساط في العمل، يقال أفاض القوم في الحديث إذا اندفعوا فيه، وقد أفاضوا من عرفة إذا دفعوا منه بكثرتهم، فتفرقوا.
فإن قيل :﴿إِذْ﴾ ههنا بمعنى حين، فيصير تقدير الكلام إلا كنا عليكم شهوداً حين تفيضون فيه، / وشهادة الله تعالى عبارة عن علمه، فيلزم منه أن يقال إنه تعالى ما علم الأشياء إلا عند وجودها وذلك باطل.
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٢٧٥
قلنا : هذا السؤال بناء على أن شهادة الله تعالى عبادة عن علمه، وهذا ممنوع، فإن الشهادة لا تكون إلا عند وجود المشهود عليه، وأما العلم، فلا يمتنع تقدمه على الشيء، والدليل عليه أن الرسول عليه السلام، لو أخبرنا عن زيد أنه يأكل غداً كنا من قبل حصول تلك الحالة عالمين بها ولا نوصف بكوننا شاهدين لها. واعلم أن حاصل هذه الكلمات أنه لا يخرج عن علم الله شيء، ثم إنه تعالى أكد هذا الكلام زيادة تأكيد، فقال :﴿وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الارْضِ وَلا فِى السَّمَآءِ وَلا أَصْغَرَ مِن ذَالِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلا﴾ وفيه مسائل :


الصفحة التالية
Icon