المسألة الأولى : أصل العزوب من البعد. يقال : كلأ عازب إذا كان بعيد المطلب، وعزب الرجل بإبله إذا أرسلها إلى موضع بعيد من المنزل، والرجل سمي عزباً لبعده عن الأهل، وعزب الشيء عن علمي إذا بعد.
المسألة الثانية : قرأ الكسائي ﴿وَمَا يَعْزُبُ﴾ بكسر الزاي، والباقون بالضم، وفيه لغتان : عزب يعزب، وعزب يعزب.
المسألة الثالثة : قوله :﴿مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ﴾ أي وزن ذرة، ومثقال الشيء ما يساويه في الثقل، والمعنى : ما يساوي ذرة والذر صغار النمل واحدها ذرة، وهي تكون خفيفة الوزن جداً، وقوله :﴿فِي الارْضِ وَلا فِى السَّمَآءِ﴾ فالمعنى ظاهر.
فإن قيل : لم قدم الله ذكر الأرض ههنا على ذكر السماء مع أنه تعالى قال في سورة سبأ :﴿عَـالِمِ الْغَيْبِا لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِى السَّمَـاوَاتِ وَلا فِى الارْضِ﴾ (سبأ : ٣).
قلنا : حق السماء أن تقدم على الأرض إلا أنه تعالى لما ذكر في هذه الآية شهادته على أحوال أهل الأرض وأعمالهم، ثم وصل ذلك قوله لا يعزب عنه، ناسب أن تقدم الأرض على السماء في هذا الموضع.
ثم قال :﴿وَلا أَصْغَرَ مِن ذَالِكَ وَلا أَكْبَرَ﴾ وفيه قراءتان قرأ حمزة ﴿وَلا أَصْغَرَ مِن ذَالِكَ وَلا أَكْبَرَ﴾ بالرفع فيهما، والباقون بالنصب.
واعلم أن قوله :﴿وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ﴾ تقديره وما يعزب عن ربك مثقال ذرة فلفظ ﴿مِّثْقَالِ﴾ عند دخول كلمة ﴿مِّنْ﴾ عليه مجرور بحسب الظاهر، ولكنه مرفوع في المعنى/ فالمعطوف عليه إن عطف على الظاهر كان مجروراً إلا أن لفظ أصغر وأكبر غير منصرف، فكان مفتوحاً / وإن عطف على المحل، وجب كونه مرفوعاً، ونظيره قوله ما أتاني من أحد عاقل وعاقل، وكذا قوله :﴿مَا لَكُم مِّنْ إِلَـاهٍ غَيْرُه ﴾ (الأعراف : ٥٩) وغيره وقال الشاعر :
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٢٧٥
فلسنا بالجبال ولا الحديدا
هذا ما ذكره النحويون، قال صاحب "الكشاف" : لو صح هذا العطف لصار تقدير هذه الآية وما يعزب عنه شيء في الأرض ولا في السماء إلا في كتاب : وحينئذ يلزم أن يكون الشيء الذي في الكتاب خارجاً عن علم الله تعالى وأنه باطل.
وأجاب بعض المحققين عنه بوجهين :
الوجه الأول : أنا بينا أن العزوب عبارة عن مطلق البعد.
وإذا ثبت هذا فنقول : الأشياء المخلوقة على قسمين : قسم أوجده الله تعالى ابتداء من غير واسطة كالملائكة والسموات والأرض، وقسم آخر أوجده الله بواسطة القسم الأول، مثل : الحوادث الحادثة في عالم الكون والفساد، ولا شك أن هذا القسم الثاني قد يتباعد في سلسلة العلية والمعلولية عن مرتبة وجود واجب الوجود فقوله :﴿وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الارْضِ وَلا فِى السَّمَآءِ وَلا أَصْغَرَ مِن ذَالِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلا فِى كِتَـابٍ مُّبِينٍ﴾ أي لا يبعد عن مرتبة وجوده مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء إلا وهو في كتاب مبين وهو كتاب كتبه الله تعالى وأثبت صور تلك المعلومات فيه، ومتى كان الأمر كذلك فقد كان عالماً بها محيطاً بأحوالها، والغرض منه الرد على من يقول : إنه تعالى غير عالم بالجزئيات، وهو المراد من قوله :﴿إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ (الجاثية : ٢٩).
والوجه الثاني : في الجواب أن نجعل كلمة ﴿إِلا﴾ في قوله :﴿إِلا فِى كِتَـابٍ مُّبِينٍ﴾ استثناء منقطعاً لكن بمعنى هو في كتاب مبين، وذكر أبو علي الجرجاني صاحب "النظم" عنه جواباً آخر فقال : قوله :﴿وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الارْضِ وَلا فِى السَّمَآءِ وَلا أَصْغَرَ مِن ذَالِكَ وَلا أَكْبَرَ﴾ ههنا تم الكلام وانقطع ثم وقع الابتداء بكلام آخر، وهو قوله :﴿إِلا فِى كِتَـابٍ مُّبِينٍ﴾ أي وهو أيضاً في كتاب مبين. قال : والعرب تضع "إلا" موضع "واو النسق" كثيراً على معنى الابتداء، كقوله تعالى :﴿لا يَخَافُ لَدَىَّ الْمُرْسَلُونَ * إِلا مَن ظَلَمَ﴾ (النمل : ١٠) يعني ومن ظلم. وقوله :﴿لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا ﴾ (البقرة : ١٥٠) يعني والذين ظلموا، وهذا الوجه في غاية التعسف.
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٢٧٥
وأجاب صاحب "الكشاف" : بوجه رابع فقال : الإشكال إنما جاء إذا عطفنا قوله :﴿وَلا أَصْغَرَ مِن ذَالِكَ وَلا أَكْبَرَ﴾ على قوله :﴿مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الارْضِ وَلا فِى السَّمَآءِ﴾ إما بحسب الظاهر أو بحسب المحل، لكنا لا نقول ذلك، بل نقول : الوجه في القراءة بالنصب في قوله :﴿وَلا أَصْغَرَ مِن ذَالِكَ﴾ الحمل / على نفي الجنس وفي القراءة بالرفع الحمل على الابتداء، وخبره قوله :﴿فِى كِتَـابٍ مُّبِينٍ﴾ وهذا الوجه اختيار الزجاج.
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٢٧٥
٢٧٨


الصفحة التالية
Icon