اعلم أنا بينا أن قوله تعالى :﴿وَمَا تَكُونُ فِى شَأْنٍ وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِن قُرْءَانٍ﴾ (يونس : ٦١) مما يقوي قلوب المطيعين، ومما يكسر قلوب الفاسقين فأتبعه الله تعالى بشرح أحوال المخلصين الصادقين الصديقين وهو المذكور في هذه الآية. وفيه مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنا نحتاج في تفسير هذه الآية إلى أن نبين أن الولي من هو ؟
ثم نبين تفسير نفي الخوف والحزن عنه. فنقول : أما إن الوحي من هو ؟
فيدل عليه القرآن والخبر والأثر والمعقول. أما القرآن، فهو قوله في هذه الآية :﴿الَّذِينَ ءَامَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾ فقوله :﴿ءَامَنُوا ﴾ إشارة إلى كمال حال القوة النظرية وقوله :﴿وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾ إشارة إلى كمال حال القوة العملية. وفيه قيام آخر، وهو أن يحمل الإيمان على مجموع الاعتقاد والعمل، ثم نصف الولي بأنه كان متقياً في الكل. أما التقوى في موقف العلم فلأن جلال الله أعلى من أن يحيط به عقل البشر، فالصديق إذا وصف الله سبحانه بصفة من صفات الجلال، فهو يقدس الله عن أن يكون كماله وجلاله مقتصراً على ذلك المقدار الذي عرفه ووصفه به، وإذا عبد الله تعالى فهو يقدس الله تعالى عن أن تكون الخدمة اللائقة بكبريائه متقدرة بذلك المقدار فثبت أنه أبداً يكون في مقام الخوف والتقوى. وأما الأخبار فكثيرة روى عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال :"هم قوم تحابوا في الله على غير أرحام بينهم ولا أموال يتعاطونها، فوالله إن وجوههم لنور، وإنهم لعلى منابر من نور لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس" ثم قرأ هذه الآية، وعن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال :"هم الذين يذكر الله تعالى برؤيتهم" قال أهل التحقيق : السبب فيه أن مشاهدتهم تذكر أمر الآخرة لما يشاهد فيهم من آيات الخشوع والخضوع، ولما ذكر الله تعالى سبحانه في قوله :﴿سِيمَاهُمْ فِى وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ﴾ (
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٢٧٨
الفتح : ٢٩) وأما الأثر، فقال أبو بكر الأصم : أولياء الله هم الذين تولى الله تعالى هدايتهم بالبرهان وتولوا القيام بحق عبودية الله تعالى والدعوة إليه، وأما المعقول فنقول : ظهر في علم الاشتقاق أن تركيب الواو واللام والياء يدل على معنى القرب، فولى كل شيء هو الذي يكون قريباً منه، والقرب من الله تعالى بالمكان والجهة محال، فالقرب منه إنما يكون إذا كان القلب مستغرقاً في نور معرفة الله تعالى سبحانه، فإن رأى رأى دلائل قدرة الله، وإن سمع سمع آيات الله وإن نطق نطق بالثناء على الله، وإن تحرك تحرك تحرك في خدمة الله، وإن اجتهد اجتهد في طاعة الله، فهنالك يكون في غاية القرب من الله، فهذا الشخص يكون ولياً لله تعالى، وإذا كان كذلك كان الله تعالى ولياً له أيضاً كما قال الله تعالى :﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ ءَامَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَـاتِ إِلَى النُّورِ ﴾ (البقرة : ٢٥٧) ويجب أن يكون الأمر كذلك، لأن القرب لا يحصل إلا من الجانبين. وقال المتكلمون : ولي الله من يكون آتياً بالاعتقاد الصحيح المبني على الدليل ويكون آتياً بالأعمال الصالحة على وفق ما وردت به الشريعة، فهذا كلام مختصر في تفسير الولي.
وأما قوله تعالى في صفتهم :﴿لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ ففيه بحثان :
البحث الأول : أن الخوف إنما يكون في المستقبل بمعنى أنه يخاف حدوث شيء في المستقبل من المخوف، والحزن إنما يكون على الماضي إما لأجل أنه كان قد حصل في الماضي ما كرهه أو لأنه فات شيء أحبه.
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٢٧٨


الصفحة التالية
Icon