الجواب : من وجوه. الأول : المراد أنه تعالى لا يعذبهم بعذاب الاستئصال كما استأصل أهل القرى الذين كفروا. الثاني : أنه تعالى يوصل إليهم الرزق كيف كان، وإليه الإشارة بقوله :﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلواةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْـاَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ ﴾ (طه : ١٣٢) الثالث : وهو الأقوى عندي أن يقال إن المشتغل بعبادة الله وبمحبة الله مشتغل بحب شيء يمتنع تغيره وزواله وفناؤه، فكل من كان إمعانه في ذلك الطريق أكثر وتوغله فيه أتم كان انقطاعه عن الخلق أتم وأكمل، وكلما كان الكمال في هذا الباب أكثر، كان الابتهاج والسرور أتم، لأنه أمن من تغير مطلوبه، وأمن من زوال محبوبه، فأما من كان مشتغلاً بحب غير الله، كان أبداً في ألم الخوف من فوات المحبوب وزواله، فكان عيشه منغصاً وقلبه مضطرباً، ولذلك قال الله تعالى في صفة المشتغلين بخدمته ﴿فَلَنُحْيِيَنَّه حَيَواةً طَيِّبَةً ﴾ (النحل : ٩٧).
السؤال الثاني : هل يدل قوله :﴿إِلَى ا أَجَلٍ مُّسَمًّى﴾ على أن للعبد أجلين، وأنه يقع في ذلك التقديم والتأخير ؟
والجواب : لا. ومعنى الآية أنه تعالى حكم بأن هذا العبد لو اشتغل بالعبادة لكان أجله في الوقت الفلاني/ ولو أعرض عنها لكان أجله في وقت آخر، لكنه تعالى عالم بأنه لو اشتغل بالعبادة أم لا فإن أجله ليس إلا في ذلك الوقت المعين، فثبت أن لكل إنسان أجلاً واحداً فقط.
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٣١٧
السؤال الثالث : لم سمى منافع الدنيا بالمتاع ؟
الجواب : لأجل التنبيه على حقارتها وقلتها، ونبه على كونها منقضية بقوله تعالى :﴿إِلَى ا أَجَلٍ مُّسَمًّى﴾ فصارت هذه الآية دالة على كونها حقيرة خسيسة منقضية، ثم لما بين تعالى ذلك قال :﴿وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَه ﴾ والمراد منه السعادات الأخروية، وفيها لطائف وفوائد.
الفائدة الأولى : أن قوله :﴿وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَه ﴾ معناه ويؤت كل ذي فضل موجب فضله ومعلوله والأمر كذلك وذلك لأن الإنسان إذا كان في نهاية البعد عن الاشتغال بغير الله وكان في غاية الرغبة في تحصيل أسباب معرفة الله تعالى فحينئذ يصير قلبه فصاً لنقش الملكوت ومرآة يتجلى بها قدس اللاهوت، إلا أن العلائق الجسدانية الظلمانية تكدر تلك الأنوار الروحانية، فإذا زالت هذه العلائق أشرقت تلك الأنوار وتلألأت تلك الأضواء وتوالت موجبات السعادات، فهذا هو المراد من قوله :﴿وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَه ﴾.
الفائدة الثانية : أن هذا تنبيه على أن مراتب السعادات في الآخرة مختلفة وذلك لأنها مقدرة بمقدار الدرجات الحاصلة في الدنيا، فلما كان الإعراض عن غير الحق والإقبال على عبودية الحق درجات غير متناهية، فكذلك مراتب السعادات الأخروية غير متناهية، فلهذا السبب قال :﴿وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَه ﴾.
الفائدة الثالثة : أنه تعالى قال في منافع الدنيا :﴿يُمَتِّعْكُم مَّتَـاعًا حَسَنًا﴾ وقال في سعادات الآخرة ﴿وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَه ﴾ وذلك يدل على أن جميع خيرات الدنيا والآخرة ليس إلا منه وليس إلا بإيجاده وتكوينه وإعطاءه وجوده. وكان الشيخ الإمام الوالد رحمه الله تعالى يقول : لولا الأسباب لما ارتاب مرتاب، فأكثر الناس عقولهم ضعيفة واشتغال عقولهم بهذه الوسائط الفانية يعميها عن مشاهدة أن الكل منه، فأما الذين توغلوا في المعارف الإلهية وخاضوا في بحار أنوار الحقيقة علموا أن ما سواه ممكن لذاته موجود بإيجاده، فانقطع نظرهم عما سواه وعلموا أنه سبحانه وتعالى هو الضار والنافع والمعطي والمانع.
ثم إنه تعالى لما بين هذه الأحوال قال :﴿وَإِن تَوَلَّوْا فَإِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ﴾ والأمر كذلك، لأن من اشتغل بعبادة غير الله صار في الدنيا أعمى، ﴿وَمَن كَانَ فِى هَـاذِه أَعْمَى فَهُوَ فِى الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلا﴾ (الإسراء : ٧٢) والذي يبين ذلك أن من أقبل على طلب الدنيا ولذاتها وطيباتها قوي حبه لها ومال طبعه إليها وعظمت رغبته فيها، فإذا مات بقي معه ذلك الحب الشديد والميل التام وصار عاجزاً عن الوصول إلى محبوبه، فحينئذ يعظم البلاء ويتكامل الشقاء، فهذا القدر المعلوم عندنا من عذاب ذلك اليوم، وأما تفاصيل تلك الأحوال فهي غائبة عنا ما دمنا في هذه الحياة الدنيوية. ثم / بين أنه لا بد من الرجوع إلى الله تعالى بقوله :﴿إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُم وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ﴾.
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٣١٧


الصفحة التالية
Icon