واعلم أن قوله :﴿إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ ﴾ فيه دقيقة، وهي : أن هذا اللفظ يفيد الحصر، يعني أن مرجعنا إلى الله لا إلى غيره، فيدل هذا على أن لا مدبر ولا متصرف هناك إلا هو والأمر كذلك أيضاً في هذه الحياة الدنيوية، إلا أن أقواماً اشتغلوا بالنظر إلى الوسائط فعجزوا عن الوصول إلى مسبب الأسباب، فظنوا أنهم في دار الدنيا قادرون على شيء، وأما في دار الآخرة، فهذا الحال الفاسد زائل أيضاً، فلهذا المعنى بين هذا الحصر بقوله :﴿إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ ﴾.
ثم قال :﴿وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ﴾ وأقول إن هذا تهديد عظيم من بعض الوجوه وبشارة عظيمة من سائر الوجوه. أما إنه تهديد عظيم فلأن قوله تعالى :﴿إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ ﴾ يدل على أنه ليس مرجعنا إلا إليه، وقوله :﴿وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ﴾ يدل على أنه قادر على جميع المقدورات لا دافع لقضائه ولا مانع لمشيئته والرجوع إلى الحاكم الموصوف بهذه الصفة مع العيوب الكثيرة والذنوب العظيمة مشكل وأما أنه بشارة عظيمة فلأن ذلك يدل على قدرة غالبة وجلالة عظيمة لهذا الحاكم وعلى ضعف تام وعجز عظيم لهذا العبد، والملك القاهر العالي الغالب إذا رأى عاجزاً مشرفاً على الهلاك فإنه يخلصه من الهلاك، ومنه المثل المشهور : ملكت فاسجح.
يقول مصنف هذا الكتاب : قد أفنيت عمري في خدمة العلم والمطالعة للكتب ولا رجاء لي في شيء إلا أني في غاية الذلة والقصور والكريم إذا قدر غفر، وأسألك يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين وساتر عيوب المعيوبين ومجيب دعوة المضطرين أن تفيض سجال رحمتك على ولدي وفلذة كبدي وأن تخلصنا بالفضل والتجاوز والجود والكرم.
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٣١٧
٣١٨
اعلم أنه تعالى لما قال :﴿وَإِن تَوَلَّوْا ﴾ يعني عن عبادته وطاعته ﴿فَإِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ﴾ بين بعده أن التولي عن ذلك باطناً كالتولي عنه ظاهراً فقال :﴿أَلا إِنَّهُمْ﴾ يعني الكفار من قوم محمد صلى الله عليه وسلّم يثنون صدورهم ليستخفوا منه.
واعلم أنه تعالى حكى عن هؤلاء الكفار شيئين : الأول : أنه يثنون صدورهم يقال : ثنيت الشيء إذا عطفته وطويته، وفي الآية وجهان :
الوجه الأول : روي أن طائفة من المشركين قالوا : إذا أغلقنا أبوابنا وأرسلنا ستورنا، واستغشينا ثيابنا وثنينا صدورنا على عداوة محمد، فكيف يعلم بنا ؟
وعلى هذا التقدير : كان قوله :﴿يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ﴾ كناية عن النفاق، فكأنه قيل : يضمرون خلاف ما يظهرون ليستخفوا من الله تعالى، ثم نبه بقوله :﴿أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ﴾ على أنهم يستخفون منه حين يستغشون ثيابهم.
الوجه الثاني : روي أن بعض الكفار كان إذا مر به رسول الله ثنى صدره وولى ظهره واستغشى ثيابه، والتقدير كأنه قيل : إنهم يتصرفون عنه ليستخفوا منه حين يستغشون ثيابهم، لئلا يسمعوا كلام رسول الله وما يتلو من القرآن، وليقولوا في أنفسهم ما يشتهون من الطعن. وقوله :﴿إِلا﴾ للتنبيه، فنبه أولاً على أنهم ينصرفوا عنه ليستخفوا ثم كرر كلمة ﴿إِلا﴾ للتنبيه على ذكر الاستخفاء لينبه على وقت استخفائهم، وهو حين يستغشون ثيابهم، كأنه قيل : ألا إنهم ينصرفون عنه ليستخفوا من الله، ألا إنهم يستخفون حين يستغشون ثيابهم. ثم ذكر أنه لا فائدة لهم في استخفائهم بقوله :﴿يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ﴾.
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٣١٨
٣١٩
اعلم أنه تعالى لما ذكر في الآية الأولى أنه ﴿يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ﴾ أردفه بما يدل على كونه تعالى عالماً بجميع المعلومات، فثبت أن رزق كل حيوان إنما يصل إليه من الله تعالى، فلو لم يكن عالماً بجميع المعلومات لما حصلت هذه المهمات، وفي الآية مسائل :


الصفحة التالية
Icon