المسألة الأولى : قال الزجاج : الدابة اسم لكل حيوان، لأن الدابة اسم مأخوذ من الدبيب، وبنيت هذه اللفظة على هاء التأنيث، وأطلق على كل حيوان ذي روح ذكراً كان أو أنثى، إلا أنه بحسب عرف العرب اختص بالفرس، والمراد بهذا اللفظ في هذه الآية الموضوع الأصلي اللغوي فيدخل فيه جميع الحيوانات، وهذا متفق عليه بين المفسرين، ولا شك أن أقسام الحيوانات / وأنواعها كثيرة، وهي الأجناس التي تكون في البر والبحر والجبال، والله يحصيها دون غيره، وهو تعالى عالم بكيفية طبائعها وأعضائها وأحوالها وأغذيتها وسمومها ومساكنها، وما يوافقها وما يخالفها، فالإله المدبر لإطباق السموات والأرضين ؛ وطبائع الحيوان والنبات، كيف لا يكون عالماً بأحوالها ؟
روي أن موسى عليه السلام عند نزول الوحي إليه تعلق قلبه بأحوال أهله، فأمره الله تعالى أن يضرب بعصاه على صخرة فانشقت وخرجت صخرة ثانية ؛ ثم ضرب بعصاه عليها فانشقت وخرجت صخرة ثالثة، ثم ضربها بعصاه فانشقت فخرجت منها دودة كالذرة وفي فمها شيء يجري مجرى الغذاء لها، ورفع الحجاب عن سمع موسى عليه السلام فسمع الدودة تقول : سبحان من يراني، ويسمع كلامي، ويعرف مكاني، ويذكرني ولا ينساني.
المسألة الثانية : تعلق بعضهم بأنه يجب على الله تعالى بعض الأشياء بهذه الآية وقال : إن كلمة ﴿عَلَى﴾ للوجوب، وهذا يدل على أن إيصال الرزق إلى الدابة واجب على الله.
وجوابه : أنه واجب بحسب الوعد والفضل والإحسان.
المسألة الثالثة : تعلق أصحابنا بهذه الآية في إثبات أن الرزق قد يكون حراماً، قالوا لأنه ثبت أن إيصال كل حيوان واجب على الله تعالى بحسب الوعد وبحسب الاستحقاق، والله تعالى لا يحل بالواجب، ثم قد نرى إنساناً لا يأكل من الحلال طول عمره، فلو لم يكن الحرام رزقاً لكان الله تعالى ما أوصل رزقه إليه، فيكون تعالى قد أخل بالواجب وذلك محال، فعلمنا أن الحرام قد يكون رزقاً، وأما قوله :﴿وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا ﴾ فالمستقر هو مكانه من الأرض والمستودع حيث كان مودعاً قبل الاستقرار في صلب أو رحم أو بيضة، وقال الفراء : مستقرها حيث تأوي إليه ليلاً أو نهاراً، ومستودعها موضعها الذي تموت فيه، وقد مضى استقصاء تفسير المستقر والمستودع في سورة الأنعام، ثم قال :﴿كُلٌّ فِى كِتَـابٍ مُّبِينٍ﴾ قال الزجاج : المعنى أن ذلك ثابت في علم الله تعالى، ومنهم من قال : في اللوح المحفوظ، وقد ذكرنا ذلك في قوله :﴿وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِى كِتَـابٍ مُّبِينٍ﴾ (الأنعام : ٥٩).
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٣١٩
٣٢٠
واعلم أنه تعالى لما أثبت بالدليل المتقدم كونه عالماً بالمعلومات، أثبت بهذا الدليل كونه تعالى قادراً على كل المقدورات وفي الحقيقة فكل واحد من هذين الدليلين يدل على كمال علم الله وعلى كمال قدرته.
واعلم أن قوله تعالى :﴿وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾ قد مضى تفسيره في سورة يونس على سبيل الاستقصاء. بقي ههنا أن نذكر ﴿وَكَانَ عَرْشُه عَلَى الْمَآءِ﴾ قال كعب خلق الله تعالى ياقوتة خضراء، ثم نظر إليها بالهيبة فصارت ماء يرتعد، ثم خلق الريح فجعل الماء على متنها ثم وضع العرش على الماء، قال أبو بكر الأصم : معنى قوله :﴿وَكَانَ عَرْشُه عَلَى الْمَآءِ﴾ كقولهم : السماء على الأرض. وليس ذلك على سبيل كون أحدهما ملتصقاً بالآخر وكيف كانت الواقعة فذلك يدل على أن العرش والماء كانا قبل السموات والأرض، وقالت المعتزلة : في الآية دلالة على وجود الملائكة قبل خلقهما، لأنه لا يجوز أن يخلق ذلك ولا أحد ينتفع بالعرض والماء، لأنه تعالى لما خلقهما فإما أن يكون قد خلقهما لمنفعة أو لا لمنفعة والثاني عبث، فبقي الأول وهو أنه خلقهما لمنفعة، وتلك المنفعة إما أن تكون عائدة إلى الله وهو محال لكونه متعالياً عن النفع والضرر أو إلى الغير فوجب أن يكون ذلك الغير حياً، لأن غير الحي لا ينتفع. وكل من قال بذلك قال ذلك الحي كان من جنس الملائكة، وأما أبو مسلم الأصفهاني فقال معنى قوله :﴿وَكَانَ عَرْشُه عَلَى الْمَآءِ﴾ أي بناؤه السموات كان على الماء، وقد مضى تفسير ذلك في سورة يونس، وبين أنه تعالى إذا بنى السموات على الماء كانت أبدع وأعجب، فإن البناء الضعيف إذا لم يؤسس على أرض صلبة لم يثبت، فكيف بهذا الأمر العظيم إذا بسط على الماء ؟
وههنا سؤالات :
السؤال الأول : ما الفائدة في ذكر أن عرشه كان على الماء قبل خلق السموات والأرض ؟


الصفحة التالية
Icon