اعلم أن تعلق هذه الآية بما قبلها ظاهر والتقدير : أفمن كان على بينة من ربه كمن يريد الحياة الدنيا وزينتها وليس لهم في الآخرة إلا النار، إلا أنه حذف الجواب لظهوره ومثله في القرآن كثير كقوله تعالى :﴿أَفَمَن زُيِّنَ لَه سُواءُ عَمَلِه فَرَءَاهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ﴾ (فاطر : ٨) وقوله :﴿أَمَّنْ هُوَ قَـانِتٌ ءَانَآءَ الَّيْلِ سَاجِدًا وَقَآاـاِمًا﴾ (الزمر : ٩) وقوله :﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ﴾ (الزمر : ٩).
واعلم أن أول هذه الآية مشتمل على ألفاظ أربعة كل واحد محتمل. فالأول : أن هذا الذي / وصفه الله تعالى بأنه على بينة من ربه من هو. والثاني : أنه ما المراد بهذه البينة. والثالث : أن المراد بقوله : القرآن أو كونه حاصلاً عقيب غيره. والرابع : أن هذا الشاهد ما هو ؟
فهذه الألفاظ الأربعة مجملة فلهذا كثر اختلاف المفسرين في هذه الآية.
أما الأول : وهو أن هذا الذي وصفه الله تعالى بأنه على بينة من ربه من هو ؟
فقيل : المراد به النبي عليه الصلاة والسلام، وقيل : المراد به من آمن من اليهود كعبدالله بن سلام وغيره، وهو الأظهر لقوله تعالى في آخر الآية :﴿تِلاوَتِه أُوالَـا ئِكَ يُؤْمِنُونَ بِه ﴾ وهذا صيغة جمع، فلا يجوز رجوعه إلى محمد صلى الله عليه وسلّم، والمراد بالبينة هو البيان والبرهان الذي عرف به صحة الدين الحق والضمير في يرجع إلى معنى البينة، وهو البيان والبرهان والمراد بالشاهد هو القرآن، ومنه أي من الله ومن قبله كتاب موسى، أي ويتلو ذلك البرهان من قبل مجيء القرآن كتاب موسى.
واعلم أن كون كتاب موسى تابعاً للقرآن ليس في الوجود بل في دلالته على هذا المطلوب و﴿لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا﴾ نصب على الحال، فالحاصل أنه يقول اجتمع في تقرير صحة هذا الدين أمور ثلاثة أولها : دلالة البينات العقلية على صحته. وثانيها : شهادة القرآن بصحته. وثالثها : شهادة التوراة بصحته، فعند اجتماع هذه الثلاثة لا يبقى في صحته شك ولا ارتياب، فهذا القول أحسن الأقاويل في هذه الآية وأقربها إلى مطابقة اللفظ وفيها أقوال أخر.
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٣٣١
فالقول الأول : أن الذي وصفه الله تعالى بأنه على بينة من ربه هو محمد عليه السلام والبينة هو القرآن، والمراد بقوله : هو التلاوة بمعنى القراءة وعلى هذا التقدير فذكروا في تفسير الشاهد وجوهاً : أحدها : أنه جبريل عليه السلام، والمعنى : أن جبريل عليه السلام يقرأ القرآن على محمد عليه السلام. وثانيها : أن ذلك الشاهد هو لسان محمد عليه السلام وهو قول الحسن ورواية عن محمد بن الحنفية عن علي رضي الله عنهما قال : قلت لأبي أنت التالي قال : وما معنى التالي قلت قوله :﴿رَّبِّه وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ﴾ قال وددت أني هو ولكنه لسان رسول الله صلى الله عليه وسلّم ولما كان الإنسان إنما يقرأ القرآن ويتلوه بلسانه لا جرم جعل اللسان تالياً على سبيل المجاز كما يقال : عين باصرة وأذن سامعة ولسان ناطق. وثالثها : أن المراد هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه، والمعنى أنه يتلو تلك البينة وقوله :﴿مِنْه ﴾ أي هذا الشاهد من محمد وبعض منه/ والمراد منه تشريف هذا الشاهد بأنه بعض من محمد عليه السلام. ورابعها : أن لا يكون المراد بقوله :﴿وَيَتْلُوهُ﴾ القرآن بل حصول هذا الشاهد عقيب تلك البينة، وعلى هذا الوجه قالوا إن المراد أن صورة النبي عليه السلام ووجهه ومخايله كل ذلك يشهد بصدقه، لأن من نظر إليه بعقله علم أنه ليس بمجنون / ولا كاهن ولا ساحر ولا كذاب والمراد بكون هذا الشاهد منه كون هذه الأحوال متعلقة بذات النبي صلى الله عليه وسلّم.
القول الثاني : أن الذي وصفه الله تعالى بأنه على بينة هم المؤمنون وهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم، والمراد بالبينة القرآن ﴿وَيَتْلُوهُ﴾ أي ويتلو الكتاب الذي هو الحجة يعني ويعقبه شاهد من الله تعالى، وعلى هذا القول اختلفوا في ذلك الشاهد فقال بعضهم : إنه محمد عليه السلام وقال آخرون : بل ذلك الشاهد هو كون القرآن واقعاً على وجه يعرف كل من نظر فيه أنه معجزة وذلك الوجه هو اشتماله على الفصاحة التامة والبلاغة الكاملة وكونه بحيث لا يقدر البشر على الإتيان بمثله، وقوله :﴿شَاهِدٌ مِّنْهُ﴾ أي من تلك البينة لأن أحوال القرآن وصفاته من القراآت متعلقة به. وثالثها : قال الفراء :﴿وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ﴾ يعني الإنجيل يتلو القرآن وإن كان قد أنزل قبله، والمعنى أنه يتلوه في التصديق، وتقريره : أنه تعالى ذكر محمداً صلى الله عليه وسلّم في الإنجيل، وأمر بالإيمان به.
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٣٣١
واعلم أن هذين القولين وإن كانا محتملين إلا أن القول الأول أقوى وأتم.


الصفحة التالية
Icon