واعلم أنه تعالى وصف كتاب موسى عليه السلام بكونه إماماً ورحمة، ومعنى كونه إماماً أنه كان مقتدى العالمين، وإماماً لهم يرجعون إليه في معرفة الدين والشرائع، وأما كونه رحمة فلأنه يهدي إلى الحق في الدنيا والدين، وذلك سبب لحصول الرحمة والثواب فلما كان سبباً للرحمة أطلق اسم الرحمة عليه إطلاقاً لاسم المسبب على السبب.
ثم قال تعالى :﴿ أولئك يُؤْمِنُونَ بِه ﴾ والمعنى : أن الذين وصفهم الله بأنهم على بينة من ربهم في صحة هذا الدين يؤمنون.
واعلم أن المطالب على قسمين منها ما يعلم صحتها بالبديهة، ومنها ما يحتاج في تحصيل العلم بها إلى طلب واجتهاد، وهذا القسم الثاني على قسمين، لأن طريق تحصيل المعارف إما الحجة والبرهان المستنبط بالعقل وإما الاستفادة من الوحي والإلهام، فهذا الطريقان هما الطريقان اللذان يمكن الرجوع إليهما في تعريف المجهولات، فإذا اجتمعا واعتضد كل واحد منهما بالآخر بلغا الغاية في القوة والوثوق، ثم إن في أنبياء الله تعالى كثرة، فإذا توافقت كلمات الأنبياء على صحته، وكان البرهان اليقيني قائماً على صحته، فهذه المرتبة قد بلغت في القوة إلى حيث لا يمكن الزيادة فقوله :﴿أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّه ﴾ المراد بالبينة الدلائل العقلية اليقينية، وقوله :﴿وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ﴾ إشارة إلى الوحي الذي حصل لمحمد عليه السلام، وقوله :﴿وَمِن قَبْلِه كِتَـابُ مُوسَى ا إِمَامًا وَرَحْمَةً ﴾ / إشارة إلى الوحي الذي حصل لموسى عليه السلام، وعند اجتماع هذه الثلاثة قد بلغ هذا اليقين في القوة والظهور والجلاء إلى حيث لا يمكن الزيادة عليه.
ثم قال تعالى :﴿وَمَن يَكْفُرْ بِه مِنَ الاحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُه ﴾ والمراد من الأحزاب أصناف الكفار، فيدخل فيهم اليهود والنصارى والمجوس. روى سعيد بن جبير عن أبي موسى أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال :"لا يسمع بي يهودي ولا نصراني فلا يؤمن بي إلا كان من أهل النار" قال أبو موسى : فقلت في نفسي إن النبي صلى الله عليه وسلّم لا يقول مثل هذا إلا عن القرآن، فوجدت الله تعالى يقول :﴿وَمَن يَكْفُرْ بِه مِنَ الاحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُه ﴾ وقال بعضهم : لما دلت الآية على أن من يكفر به فالنار موعده، دلت على أن من لا يكفر به لم تكن النار موعده.
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٣٣١
ثم قال تعالى :﴿فَلا تَكُ فِى مِرْيَةٍ مِّنْه إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ﴾ ففيه قولان : الأول : فلا تك في مرية من صحة هذا الدين، ومن كون القرآن نازلاً من عند الله تعالى، فكان متعلقاً بما تقدم من قوله تعالى :﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاـاه ﴾ (السجدة : ٣) الثاني : فلا تك في مرية من أن موعد الكافر النار. وقرىء ﴿مِرْيَةٍ﴾ بضم الميم.
ثم قال :﴿وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ﴾ والتقدير : لما ظهر الحق ظهوراً في الغاية، فكن أنت متابعاً له ولا تبال بالجهال سواء آمنوا أو لم يؤمنوا، والأقرب أن يكون المراد لا يؤمنون بما تقدم ذكره من وصف القرآن.
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٣٣١
٣٣٢
اعلم أن الكفار كانت لهم عادات كثيرة وطرق مختلفة، فمنها شدة حرصهم على الدنيا ورغبتهم في تحصيلها، وقد أبطل الله هذه الطريقة بقوله :﴿مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَواةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا﴾ (هود : ١٥) إلى آخر الآية، / ومنها أنهم كانوا ينكرون نبوة الرسول صلى الله عليه وسلّم، ويقدحون في معجزاته، وقد أبطل الله تعالى بقوله :﴿أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّه ﴾ (محمد : ١٤) ومنها أنهم كانوا يزعمون في الأصنام أنها شفعاؤهم عند الله، وقد أبطل الله تعالى ذلك بهذه الآية، وذلك لأن هذا الكلام افتراء على الله تعالى، فلما بين وعيد المفترين على الله، فقد دخل فيه هذا الكلام.
واعلم أن قوله :﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ﴾ إنما يورد في معرض المبالغة. وفيه دلالة على أن الافتراء على الله تعالى أعظم أنواع الظلم.
ثم إنه تعالى بين وعيد هؤلاء بقوله :﴿ أولئك يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ﴾ وما وصفهم بذلك لأنهم مختصون بذلك العرض، لأن العرض عام في كل العباد كما قال :﴿وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا﴾ (الكهف : ٤٨) وإنما أراد به أنهم يعرضون فيفتضحون بأن يقول الأشهاد عند عرضهم ﴿هَـا ؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ ﴾ فحصل لهم من الخزي والنكال مالا مزيد عليه، وفيه سؤالات :
السؤال الأول : إذا لم يجز أن يكون الله تعالى في مكان، فكيف قال :﴿يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ﴾ والجواب : أنهم يعرضون على الأماكن المعدة للحساب والسؤال، ويجوز أيضاً أن يكون ذلك عرضاً على من شاء الله من الخلق بأمر الله من الملائكة والأنبياء والمؤمنين.
السؤال الثاني : من الأشهاد الذين أضيف إليهم هذا القول ؟


الصفحة التالية
Icon