الصفة الحادية عشرة : قوله :﴿مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ﴾ والمراد ما هم عليه في الدنيا من صمم القلب وعمى النفس/ واحتج أصحابنا بهذه الآية على أنه تعالى قد يخلق في المكلف ما يمنعه الإيمان، روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال إنه تعالى منع الكافر من الإيمان في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا ففي قوله تعالى :﴿مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ﴾ وأما في الآخرة فهو قوله :﴿وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ﴾ (القلم : ٤٢) وحاصل الكلام في هذا الاستدلال أنه تعالى أخبر عنهم أنهم لا يستطيعون السمع، فإما أن يكون المراد أنهم ما كانوا يستطيعون سمع الأصوات والحروف، وإما أن يكون المراد / كونهم عاجزين عن الوقوف على دلائل الله تعالى، والقول الأول باطل لأن البديهة دلت على أنهم كانوا يسمعون الأصوات والحروف، وجب حمل اللفظ على الثاني أجاب الجبائي عنه بأن السمع إما أن يكون عبارة عن الحاسة المخصوصة، أو عن معنى يخلقه الله تعالى في صماخ الأذن، وكلاهما لا يقدر العبد عليه، لأنه لو اجتهد في أن يفعل ذلك أو يتركه لتعذر عليه، وإذا ثبت هذا كان إثبات الاستطاعة فيه محالاً، وإذا كان إثباتها محالاً كان نفي الاستطاعة عنه هو الحق، فثبت أن ظاهر الآية لا يقدح في قولنا. ثم قال المراد بقوله :﴿مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ﴾ إهمالهم له ونفورهم عنه كما يقول القائل : هذا كلام لا أستطيع أن أسمعه، وهذا مما يمجه سمعي وذكر غير الجبائي عذراً آخر، فقال إنه تعالى نفى أن يكون لهم أولياء والمراد الأصنام ثم بين نفي كونهم أولياء بقوله :﴿مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ﴾ فكيف يصلحون للولاية.
والجواب : أما حمل الآية على أنه لا قدرة لهم على خلق الحاسة وعلى خلق المعنى فيها فباطل، لأن هذه الآية وردت في معرض الوعيد فلا بد وأن يكون ذلك معنى مختصاً بهم، والمعنى الذي قالوه حاصل في الملائكة والأنبياء فكيف يمكن حمل اللفظ عليه، وأما قوله إن ذلك محمول على أنهم كانوا يستثقلون سماع كلام رسول الله صلى الله عليه وسلّم وإبصار صورته.
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٣٣٥
فالجواب أنه تعالى نفى الاستطاعة فحمله على معنى آخر خلاف الظاهر، وأيضاً أن حصول ذلك الاستثقال إما أن يمنع من الفهم والوصول إلى الغرض أو لم يمنع، فإن منع فهو المقصود، وإن لم يمنع منه فحينئذ كان ذلك سبباً أجنبياً عن المعاني المعتبرة في الفهم والإدراك، ولا تختلف أحوال القلب في العلم والمعرفة بسببه، فكيف يمكن جعله ذماً لهم في هذا المعرض، وأيضاً قد بينا مراراً كثيرة في هذا الكتاب أن حصول الفعل مع قيام الصارف محال، فلما بين تعالى كون هذا المعنى صارفاً عن قبول الدين الحق وبين فيه أنه حصل حصولاً على سبيل اللزوم بحيث لا يزول ألبتة في ذلك الوقت كان المكلف في ذلك الوقت ممنوعاً عن الإيمان، وحينئذ يحصل المطلوب، وأما قوله فإنا نجعل هذه الصفة من صفة الأوثان فبعيد لأنه تعالى قال :﴿يُضَـاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ ﴾ ثم قال :﴿مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ﴾ فوجب أن يكون الضمير في هذه الآية المتأخرة عائداً إلى عين ما عاد إليه الضمير المذكور في هذه الآية الأولى. وأما قوله :﴿وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ﴾ فقيل : المراد منه البصيرة، وقيل : المراد منه أنهم عدلوا عن إبصار ما يكون حجة لهم.
الصفة الثانية عشرة : قوله :﴿ أولئك الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ﴾ ومعناه أنهم اشتروا عبادة الآلهة بعبادة الله تعالى فكان هذا الخسران أعظم وجوه الخسران.
الصفة الثالثة عشرة : قوله :﴿وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ والمعنى أنهم لما باعوا الدين بالدنيا فقد خسروا، لأنهم أعطوا الشريف، ورضوا بأخذ الخسيس، وهذا عين الخسران في الدنيا ثم في الآخرة فهذا الخسيس يضيع ويهلك ولا يبقى منه أثر/ وهو المراد بقوله :﴿وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾.


الصفحة التالية
Icon