الصفة الرابعة عشرة : قوله :﴿لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِى الآخِرَةِ هُمُ الاخْسَرُونَ﴾ وتقريره ما تقدم، وهو أنه لما أعطى الشريف الرفيع ورضي بالخسيس الوضيع فقد خسر في التجارة. ثم لما كان هذا الخسيس بحيث لا يبقى بل لا بد وأن يهلك ويفنى انقلبت تلك التجارة إلى النهاية في صفة الخسارة، فلهذا قال :﴿لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِى الآخِرَةِ هُمُ الاخْسَرُونَ﴾ وقوله ﴿لا جَرَمَ﴾ قال الفراء : إنها بمنزلة قولنا لا بد ولا محالة، ثم كثر استعمالها حتى صارت بمنزلة حقاً، تقول العرب : لا جرم أنك محسن، على معنى حقاً إنك محسن، وأما النحويون فلهم فيه وجوه : الأول : لا حرف نفي وجزم، أي قطع، فإذا قلنا : لا جرم معناه أنه لا قطع قاطع عنهم أنهم في الآخرة هم الأخسرون. الثاني : قال الزجاج إن كلمة ﴿لا﴾ نفي لما ظنوا أنه ينفعهم، و﴿جَرَمَ﴾ معناه كسب ذلك الفعل، والمعنى : لا ينفعهم ذلك وكسب ذلك الفعل لهم الخسران في الدنيا والآخرة، وذكرنا ﴿جَرَمَ﴾ بمعنى كسب في تفسير قوله تعالى :﴿لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِى أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَآ أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ﴾ (المائدة : ٢) قال الأزهري، وهذا من أحسن ما قيل في هذا الباب، الثالث : قال سيبويه والأخفش :﴿لا﴾ رد على أهل الكفر كما ذكرنا وجرم معناه حق وصحح، والتأويل أنه حق كفرهم وقوع العذاب والخسران بهم. واحتج سيبويه بقول الشاعر :
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٣٣٥
ولقد طعنت أبا عيينة طعنة
جرمت فزاة بعدها أن يغضبوا
أراد حقت الطعنة فزارة أن يغضبوا.
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٣٣٥
٣٣٥
اعلم أنه تعالى لما ذكر عقوبة الكافرين وخسرانهم، أتبعه بذكر أحوال المؤمنين، والإخبات هو الخشوع والخضوع وهو مأخوذ من الخبت وهو الأرض المطمئنة وخبت ذكره أي خفي، / فقوله :"أخبت" أي دخل في الخبت، كما يقال فيمن صار إلى نجد أنجد وإلى تهامة أتهم، ومنه المخبت من الناس الذي أخبت إلى ربه أي اطمأن إليه، ولفظ الإخبات يتعدى بإلى وباللام، فإذا قلنا : أخبت فلان إلى كذا فمعناه اطمأن إليه، وإذا قلنا أخبت له فمعناه خشع له.
إذا عرفت هذا فنقول : قوله :﴿إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ﴾ إشارة إلى جميع الأعمال الصالحة، وقوله ﴿وَأَخْبَتُوا ﴾ إشارة إلى أن هذه الأعمال لا تنفع في الآخرة إلا مع الأحوال القلبية ثم إن فسرنا الإخبات بالطمأنينة كان المراد أنهم يعبدون الله وكانت قلوبهم عند أداء العبادات مطمئنة بذكر الله فارغة عن الالتفات إلى ما سوى الله تعالى أو يقال إنما قلوبهم صارت مطمئنة إلى صدق الله بكل ما وعدهم من الثواب والعقاب، وأما إن فسرنا الإخبات بالخشوع كان معناه أنهم يأتون بالأعمال الصالحة خائفين وجلين من أن يكونوا أتوا بها مع وجود الإخلال والتقصير، ثم بين أن من حصل له هذه الصفات الثلاثة فهم أصحاب الجنة، ويحصل لهم الخلود في الجنة.
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٣٣٥
٣٣٦
واعلم أنه تعالى لما ذكر الفريقين ذكر فيهما مثالاً مطابقاً ثم اختلفوا فقيل : إنه راجع إلى من ذكر آخراً من المؤمنين والكافرين من قبل، وقال آخرون : بل رجع إلى قوله :﴿أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّه ﴾ (هود : ١٧) ثم ذكر من بعده الكافرين ووصفهم بأنهم لا يستطيعون السمع ولا يبصرون، والسميع والبصير هم الذين وصفهم الله بأنهم على بينة من ربهم.
واعلم أن وجه التشبيه هو أنه سبحانه خلق الإنسان مركباً من الجسد ومن النفس، وكما أن للجسد بصراً وسمعاً فكذلك حصل لجوهر الروح سمع وبصر، وكما أن الجسد إذا كان أعمى أصم بقي متحيراً لا يهتدي إلى شيء من المصالح، بل يكون كالتائه في حضيض الظلمات لا يبصر نوراً يهتدي به ولا يسمع صوتاً، فكذلك الجاهل الضال المضل، يكون أعمى وأصم القلب، فيبقى في ظلمات الضلالات حائراً تائهاً.
ثم قال تعالى :﴿أَفَلا تَذَكَّرُونَ﴾ منبهاً على أنه يمكنه علاج هذا العمى وهذا الصمم، وإذا كان /العلاج ممكناً من الضرر الحاصل بسبب حصول هذا العمى وهذا الصمم وجب على العاقل أن يسعى في ذلك العلاج بقدر الإمكان.
واعلم أنه قد جرت العادة بأنه تعالى إذا ورد على الكافر أنواع الدلائل أتبعها بالقصص، ليصير ذكرها مؤكداً لتلك الدلائل على ما قررنا هذا المعنى في مواضع كثيرة، وفي هذه السورة ذكر أنواعاً من القصص.
القصة الأولى
قصة نوح عليه السلام
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٣٣٦
٣٣٦
اعلم أنه تعالى قد بدأ بذكر هذه القصة في سورة يونس وقد أعادها في هذه السورة أيضاً لما فيها من زوائد الفوائد وبدائع الحكم، وفيه مسألتان :


الصفحة التالية
Icon