المسألة الأولى : قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي ﴿إِنِّى ﴾ بفتح الهمزة، والمعنى : أرسلنا نوحاً بأني لكم نذير مبين، ومعناه أرسلناه ملتبساً بهذا الكلام وهو قوله :﴿إِنِّى لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾ فلما اتصل به حرف الجر وهو الباء فتح كما فتح في كان، وأما سائر القراء فقرؤا ﴿إِنِّى ﴾ بالكسر على معنى قال ﴿إِنِّى لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾.
المسألة الثانية : قال بعضهم : المراد من النذير كونه مهدداً للعصاة بالعقاب، ومن المبين كونه مبيناً ما أعد الله للمطيعين من الثواب، والأولى أن يكون المعنى أنه نذير للعصاة من العقاب وأنه مبين بمعنى أنه بين ذلك الإنذار على الطريق الأكمل والبيان الأقوى الأظهر، ثم بين تعالى أن ذلك الإنذار إنما حصل في النهي عن عبادة غير الله وفي الأمر بعبادة الله لأن قوله :﴿أَن لا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ ﴾ استثناء من النفي وهو يوجب نفي غير المستثنى.
واعلم أن تقدير الآية كأنه تعالى قال ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه بهذا الكلام وهو قوله :﴿إِنِّى لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾.
ثم قال :﴿أَن لا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ ﴾ فقوله :﴿أَن لا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ ﴾ بدل من قوله :﴿إِنِّى لَكُمْ نَذِيرٌ﴾ ثم إنه أكد ذلك بقوله :﴿إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ والمعنى أنه لما حصل الألم العظيم في ذلك اليوم أسند ذلك الألم إلى اليوم، كقولهم نهارك صائم، وليلك قائم.
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٣٣٦
٣٣٨
اعلم أنه تعالى لما حكى عن نوح عليه السلام أنه دعا قومه إلى عبادة الله تعالى حكى عنهم أنهم طعنوا في نبوته بثلاثة أنوع من الشبهات.
فالشبهة الأولى : أنه بشر مثلهم، والتفاوت الحاصل بين آحاد البشر يمتنع انتهاؤه إلى حيث يصير الواحد منهم واجب الطاعة لجميع العالمين.
والشبهة الثانية : كونه ما أتبعه إلا أراذل من القوم كالحياكة وأهل الصنائع الخسيسة، قالوا ولو كنت صادقاً لاتبعك الأكياس من الناس والأشراف منهم، ونظيره قوله تعالى في سورة الشعراء ﴿أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الارْذَلُونَ﴾ (الشعراء : ١١١).
والشبهة الثالثة : قوله تعالى :﴿وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْل ﴾ والمعنى : لا نرى لكم علينا من فضل لا في العقل ولا في رعاية المصالح العاجلة ولا في قوة الجدل فإذا لم نشاهد فضلك علينا في شيء من هذه الأحوال الظاهرة فكيف نعترف بفضلك علينا في أشرف الدرجات وأعلى المقامات، فهذا خلاصة الكلام في تقرير هذه الشبهات.
واعلم أن الشبهة الأولى لا تليق إلا بالبراهمة الذين ينكرون نبوة البشر على الإطلاق، أما الشبهتان الباقيتان فيمكن أن يتمسك بهما من أقر بنبوة سائر الأنبياء، وفي لفظ الآية مسائل :
المسألة الأولى : الملأ الأشراف وفي اشتقاقه وجوه : الأول : أنه مأخوذ من قولهم مليء بكذا إذا كان مطيقاً له وقد ملؤا بالأمر، والسبب في إطلاق هذا اللفظ عليهم أنهم ملؤا بترتيب المهمات / وأحسنوا في تدبيرها. الثاني : أنهم وصفوا بذلك لأنهم يتمالؤون أي يتظاهرون عليه. الثالث : وصفوا بذلك لأنهم يملؤون القلوب هيبة والمجالس أبهة. الرابع : وصفوا به لأنهم ملؤوا العقول الراجحة والآراء الصائبة.
ثم حكى الله تعالى عنهم الشبهة الأولى، وهي قولهم :﴿مَا نَرَاـاكَ إِلا بَشَرًا مِّثْلَنَا﴾ وهو مثل ما حكى الله تعالى عن بعض العرب أنهم قالوا :﴿لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ ﴾ (الأنعام : ٨) وهذا جهل، لأن من حق الرسول أن يباشر الأمة بالدليل والبرهان والتثبت والحجة، لا بالصورة والخلقة، بل نقول : إن الله تعالى لو بعث إلى البشر ملكاً لكانت الشبهة أقوى في الطعن عليه في رسالته لأنه يخطر بالبال أن هذه المعجزات التي ظهرت لعل هذا الملك هو الذي أتى بها من عند نفسه بسبب أن قوته أكمل وقدرته أقوى، فلهذه الحكمة ما بعث الله إلى البشر رسولاً إلا من البشر.
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٣٣٨
ثم حكى الشبهة الثانية وهي قوله :﴿وَمَا نَرَاـاكَ اتَّبَعَكَ إِلا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِىَ الرَّأْىِ﴾ والمراد منه قلة ما لهم وقلة جاههم ودناءة حرفهم وصناعتهم هذا أيضاً جهل، لأن الرفعة في الدين لا تكون بالحسب والمال والمناصب العالية، بل الفقر أهون على الدين من الغنى، بل نقول : الأنبياء ما بعثوا إلا لترك الدنيا والإقبال على الآخرة فكيف تجعل قلة المال في الدنيا طعناً في النبوة والرسالة.


الصفحة التالية
Icon