اعلم أن معنى افتراه اختلقه وافتعله وجاء به من عند نفسه، والهاء ترجع إلى الوحي الذي بلغه إليهم، وقوله :﴿فَعَلَىَّ إِجْرَامِى﴾ الإجرام اقتراح المحظورات واكتسابها، وهذا من باب حذف المضاف، لأن المعنى : فعليَّ عقاب إجرامي، وفي الآية محذوف آخر وهو أن المعنى : إن كنت افتريته فعليَّ عقاب جرمي، وإن كنت صادقاً وكذبتموني فعليكم عقاب ذلك التكذيب، إلا أنه حذف هذه البقية لدلالة الكلام عليه، كقوله :﴿أَمَّنْ هُوَ قَـانِتٌ ءَانَآءَ الَّيْلِ﴾ (الزمر : ٩) ولم يذكر البقية، وقوله :﴿وَأَنَا بَرِى ءٌ مِّمَّا تُجْرِمُونَ﴾ أي أنا بريء من عقاب جرمكم، وأكثر المفسرين على أن هذا من بقية كلام نوح عليه السلام، وهذه الآية وقعت في قصة محمد صلى الله عليه وسلّم في أثناء حكاية نوح، وقولهم بعيد جداً، وأيضاً قوله :﴿قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُه فَعَلَىَّ إِجْرَامِى﴾ لا يدل على أنه كان شاكاً، إلا أنه قول يقال على وجه الإنكار عند اليأس من القبول.
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٣٤٣
٣٤٤
فيه مسائل :
المسألة الأولى : قال ابن عباس رضي الله عنهما : لما جاء هذا من عند الله تعالى دعا على / قومه فقال :﴿رَّبِّ لا تَذَرْ عَلَى الارْضِ مِنَ الْكَـافِرِينَ دَيَّارًا﴾ (نوح : ٢٦) وقوله :﴿فَلا تَبْتَـاـاِسْ﴾ أي لا تحزن، قال أبو زيد : ابتأس الرجل إذا بلغه شيء يكرهه، وأنشد أبو عبيدة :
ما يقسم الله أقبل غير مبتئس
به وأقعد كريماً ناعم البال
أي غير حزين ولا كاره.
المسألة الثانية : احتج أصحابنا بهذه الآية على صحة قولهم في القضاء والقدر وقالوا : إنه تعالى أخبر عن قومه أنهم لا يؤمنون بعد ذلك، فلو حصل إيمانهم لكان إما مع بقاء هذا الخبر صدقاً، ومع بقاء هذا العلم علماً أو مع انقلاب هذا الخبر كذباً ومع انقلاب هذا العلم جهلاً والأول ظاهر البطلان لأن وجود الإيمان مع أن يكون الإخبار عن عدم الإيمان صدقاً، ومع كون العلم بعدم الإيمان حاصلاً حال وجود الإيمان جمع بين النقيضين، والثاني أيضاً باطل، لأن انقلاب خبر الله كذباً وعلم الله جهلاً محال، ولما كان صدور الإيمان منهم لا بد وأن يكون على هذين القسمين وثبت أن كل واحد منهما محال كان صدور الإيمان منهم محالاً مع أنهم كانوا مأمورين به، وأيضاً القوم كانوا مأمورين بالإيمان ومن الإيمان تصديق الله تعالى في كل ما أخبر عنه. ومنه قوله :﴿وَأُوحِىَ إِلَى نُوحٍ أَنَّه لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلا﴾ (هود : ٣٦) فيلزم أن يقال : إنهم كانوا مأمورين بأن يؤمنوا بأنهم لا يؤمنون ألبتة. وذلك تكليف الجمع بين النقيضين، وتقرير هذا الكلام قد مر في هذا الكتاب مراراً وأطواراً.
المسألة الثالثة : اختلف المعتزلة في أنه هل يجوز أن ينزل الله تعالى عذاب الاستئصال على قوم كان في المعلوم أن فيهم من يؤمن أو كان في أولادهم من يؤمن، فقال قوم : إنه لا يجوز. واحتجوا بما حكى الله تعالى عن نوح عليه السلام أنه قال :﴿وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لا تَذَرْ عَلَى الارْضِ مِنَ الْكَـافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِرًا كَفَّارًا﴾ (نوح : ٢٦، ٢٧) وهذا يدل على أنه إنما حسن منه تعالى إنزال عذاب الاستئصال عليهم، لأجل أنه تعالى علم أنه ليس من يؤمن، ولا في أولادهم أحد يؤمن. قال القاضي وقال كثير من علمائنا : إن ذلك من الله تعالى جائز وإن كان منهم من يؤمن. وأما قول نوح عليه السلام :﴿رَّبِّ لا تَذَرْ عَلَى الارْضِ مِنَ الْكَـافِرِينَ دَيَّارًا﴾ فذلك يدل على أنه إنما سأل ذلك من حيث إنه كان في المعلوم أنهم يضلون عباده ولايلدون إلا فاجراً كفاراً وذلك يدل على أن ذلك الحكم كان قولاً بمجموع هاتين العلتين، وأيضاً فلا دليل فيه على أنهما لو لم يحصلا لما جاز إنزال الإهلاك، والأقرب أن يقال : إن نوحاً عليه السلام لشدة محبته لإيمانهم كان سأل ربه أن يبقيهم، فأعلمه أنه لا يؤمن منهم أحد ليزول عن قلبه ما كان قد حصل / فيه من تلك المحبة، ولذلك قال تعالى من بعد :﴿فَلا تَبْتَـاـاِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ أي لا تحزن من ذلك ولا تغتم ولا تظن أن في ذلك مذلة، فإن الدين عزيز، وإن قل عدد من يتمسك به، والباطل ذليل وإن كثر عدد من يقول به.
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٣٤٤
٣٤٥
[بم قوله تعالى :
﴿وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلا تُخَـاطِبْنِى فِى الَّذِينَ ظَلَمُوا ا إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ﴾.
واعلم أن قوله تعالى :﴿أَنَّه لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلا مَن قَدْ ءَامَنَ﴾ يقتضي تعريف نوح عليه السلام أنه معذبهم ومهلكهم، فكان يحتمل أن يعذبهم بوجوه التعذيب، فعرفه الله تعالى أنه يعذبهم بهذا الجنس الذي هو الغرق، ولما كان السبيل الذي به يحصل النجاة من الغرق تكوين السفينة. لا جرم أمر الله تعالى بإصلاح السفينة وإعدادها، فأوحى الله تعالى إليه أن يصنعها على مثال جوجؤ الطائر.


الصفحة التالية
Icon